الفصل الثاني والخمسون

أبدية حال الأبرار والأشرار

1 -  ما هو تعليم الكتاب في دوام حال الأشرار بعد الموت؟

* لا نهاية لقصاص الأشرار، ولا توبة حقيقية ولا إصلاح في العالم الآتي. وتتضح صحة هذا القول مما يأتي:

(1) أعلن المسيح والرسل ذلك، فقيل إن قصاص الأشرار أبدي، وإنه بدون نهاية، وإن في العالم الأخير هوة لا تُعبَر بين الأشرار والأبرار، وإن من الخطايا ما لا يُغفَر، في هذه الحياة ولا في الحياة الآتية. وقيل إن المسيح يجمع الحنطة إلى مخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ (لو 3: 17). وقال المسيح إنه خيرٌ للإنسان أن يدخل الحياة أقطع من أن يكون له يدان ويذهب إلى جهنم، حيث الدود لا يموت والنار لا تُطفأ (مر 9: 42-48). وهذه الكلمات تكررت ثلاث مرات في إحدى مواعظ المسيح، وهذا دلالة على قوتها وأهميتها. وبكى المسيح على أورشليم ولكنه لم يرفع عنها الحكم. فكذلك يمكن أن يبكي على آخرة الأشرار غير التائبين ومع ذلك يتركهم لنصيبهم العادل. وجاء أن الديّان سيقول في اليوم الأخير للذين عن يمينه «تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعّد لكم منذ تأسيس العالم» ويقول للذين عن يساره «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية» (مت 25: 41). فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية (مت 25: 46). وكلمة «أبدية» تصف حال الأبرار والأشرار، ولا بد أن معناها واحد في الموضعين. وقال المسيح «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياةً، بل يمكث عليه غضب الله» (يو 3: 36). وعلَّم بولس أنه عندما يأتي المسيح يعاقب الأشرار بهلاكٍ أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته (2تس 1: 9). وقال الرسول يهوذا إن الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم الله إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام، كما أن سدوم وعمورة جُعلت عبرة لمكابدة عقاب نار أبدية. وقال في المرتدّين إنه حفظ لهم قتام الظلام إلى الأبد (يه 6، 7، 13). وجاء في سفر الرؤيا أن الذين يسجدون للوحش وصورته ويقبلون سمته يُعذَّبون بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الحمل، ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين، ولا تكون لهم راحة نهاراً وليلاً (رؤ 14: 9-11) وتكررت نفس هذه الكلمات تقريباً في ذلك السفر (رؤ 19: 1-3 و20: 10).

(2) اعتقد اليهود في العهد القديم وفي عصر المسيح أن قصاص الأشرار أبدي. ولم ينفِ المسيح ولا الرسل هذا الاعتقاد. وقد وبخوا المعلمين الكذبة في عصرهم على تعاليم الضلال في أمور كثيرة، ولكنهم لم يُهاجموا اعتقادهم في هذا الشأن، ولا علّموا شيئاً مضاداً له.

(3) لا يُثبت الكتاب إلا هذا القول، ومن ذلك قول الرسول إن قصد الله هو أن يجمع في المسيح (أو أن «يصالح لنفسه» كما في كو 1: 20) كل شيء، أي ما في السموات وما على الأرض (أف 1: 10). فالسؤال هنا: من هم، أو ما هو الكل الذي سيتصالح مع الله؟ والإجابة: لا يمكن أن يكون معنى «كل شيء» كل العالمين، حيّها وجمادها كالشمس والقمر والنجوم، لأنها ليست قابلة للمصالحة مع الله. ولهذا السبب عينه لا يمكن أن يُقصد بها كل الحيوان. ولا يمكن أن يُقصد بها كل الخلائق العاقلة، لأن منهم الملائكة الأطهار، وهم لا يحتاجون إلى مصالحة. ولا يمكن أن يُقصد بها كل الخلائق العاقلة الساقطة، لأن المسيح لم يأت ليفتدي الملائكة الساقطين (عب 2: 16). ولا يُقصد بها جميع البشر، لأن الكتاب يعلّم أن ليس كل البشر يتصالحون مع الله، ولا يمكن أن يناقض الكتاب نفسه. فمعنى «كل شيء» إذاً هو ما كان الكلام عليه في القرينة، أي «كل شعب الله وجميع المفديين». ويستند أيضاً على قول الرسول «فإذاً كما بخطية واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببرٍ واحدٍ صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة» (رو 5: 18). فقالوا إن معنى هذا هو: كما أن جميع الناس يُدانون بمعصية آدم كذلك جميع الناس يتبررون ببر المسيح. وهكذا فسروا قوله «كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع» (1كو 15: 22).

وللرد نقول: لا بد من تقييد معنى «جميع» في هاتين الآيتين، فإن جميع الذين يموتون هم الذين في آدم، وجميع الذين يحيون هم الذين في المسيح. وأما أصحاب مذهب الخلاص العام فيطلقون كلمة «جميع» على كل البشر أو جميع الخلائق الساقطة، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك وفقاً لروح الكتاب وجرياً على سنن أصحاب الرأي المستقيم. ولكن الكتاب لا يعلّمنا أن كل البشر وكل الملائكة الساقطين يخلصون. فقول الرسول إن المسيح «ينبغي أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 15: 25) معناه أنه ينبغي أن يملك حتى يُجري حكمه على كل الشياطين وكل الأشرار. وكذلك قوله إن الله يريد أن جميع البشر يخلصون (1تي 2: 4) فإذا كانت كلمة «يريد» هنا تعني «يقصد» فهذه الآية تعلّم أن جميع البشر يخلصون أخيراً. ولكن إذا كان معناها هنا «يُسرّ» (كما في مت 27: 43) فهي تعلّم ما يعلّمه الكتاب في مواضع أخرى، وهو أن الله محبة، وأنه لا يُسرّ بموت الخاطئ.

(4) شهادة الآيات التي فيها هذا التعليم تلميحاً لا تصريحاً، والتي ورد فيها أن ليس في الدهر الآتي توبة ولا غفران ولا تغيير حال. فقد ورد هذا في مثل «الغني ولعازر» الذي علّم استحالة العبور من جهنم إلى السماء. وكذلك نتعلم أن الذين يموتون في الخطية يبقون خطاة إلى الأبد. وقال المسيح إنه خير للإنسان لو لم يولد من أن يُعثِر أحد الصغار المؤمنين. وهذا القول برهان قاطع على نفي اعتقاد الخلاص العام، لأنه إذا كان الإنسان بعد مدة عذاب قصيرة يدخل إلى سعادة أبدية، فالولادة الجسدية تكون ذات بركة عظيمة لا توصف!

(5) اتفاق إيمان الكنيسة في كل القرون، ولا يمكن أن يتم هذا الاتفاق بغير سندٍ من الكتاب، فإن الإنسان الطبيعي يرفض هذا التعليم، ولكن الكنيسة اعتقدت به لأنه تعليم كتابي. وهكذا فعلت الكنيسة مع تعليم التثليث ولاهوت المسيح وأقنومية الروح القدس، فقد بَنَت هذه التعاليم على سلطان الكتاب المقدس وحده.

ولا يلزم عن هذا البرهان أن الكنيسة معصومة، ولا أن أساس الإيمان هو سلطان الكنيسة، وإنما يلزم عنه أنه لا بد أن يكون تعليم الكتاب الواضح البسيط الذي يفهمه جمهور الذين يدرسون من ذوي العقول السليمة هو الحَكَم الأخير في كل تعليم.

2- بماذا اعترض البعض على أبدية حال الأشرار، وما هو الرد عليهم؟

* قال البعض إن الكلمات العبرية واليونانية التي تحدثت عن دوام قصاص الأشرار لا تفيد بالضرورة أن ذلك القصاص بلا نهاية. وللرد على هذا نقول إن هذا غير صحيح، لأن تلك الكلمات اليونانية تعني أبدية حال الأشرار، فإن الكلمتين العبرية واليونانية المترجمتين «أبدي» يُراد بهما مدة لا آخر لها. فمتى وُصف بهما ما هو زائل (كالجبال) فهما تعنيان ما ليس له حد معروف. ومتى وُصف بهما ما هو في طبيعته غير قابل للفناء أو ما أُعلن عدم انتهاء وجوده (كالنفس البشرية) أو ما ليس لنا أن نعيّن له حداً لأسباب أخرى (مثل سعادة القديسين الأبدية) يجب أن نأخذهما بمعناهما الحرفي. فإذا قال أحد إن كلمة «أبدي» تعني مدة محدودة لاستعمالها بهذا المعنى في بعض القرائن، فواضح أن هذا الاستدلال ضعيف وساقط. وإذا كان الكتاب يقول إن عذاب الهالكين يبقى إلى الأبد، فواضحٌ أنه يقتضي أن نعتبر هذا العذاب أبدياً، ما لم يتبرهن أن نفس الإنسان ليست خالدة، وأن الكتاب يعلِّم في مواضع أخرى أن ذلك العذاب سينتهي يوماً. ولكن لم يبرهن أحدٌ أن سعادة الأبرار تنتهي بعد مدة، لأن كلمة «أبدي» استُعملت أحياناً لما لا يبقى إلى الأبد.

وقد علّمنا المسيح أن عقاب الأشرار أبدي بنفس المعنى الذي به سعادة القديسين أبدية. وعلى فرض أن كلمة «أبدي» تحتمل المعنيين، فقد قال الكتاب إن الدود لا يموت والنار لا تُطفأ وهذا يؤيد أن كلمة «أبدي» تعني «ما لا نهاية له». وكل العبارات المستعملة لبيان دوام خلاص المؤمنين وبقاء مملكة المسيح إلى الأبد تعني أيضاً دوام العقاب الذي سيصيب الأشرار. فإذا لم يكن هذا التعليم واضحاً في الكتاب فيستحيل توضيحه بلغة بشرية.

ويتضح ضعف القول إن ألفاظ التعبير لا تفيد أبدية حال الأشرار من مراجعة كيفية استعمال تلك الألفاظ في الأسفار المقدسة، ونقتصر على ثلاثة منها:

(1) في ست عبارات في الكتاب قيل إن قصاص الأشرار هو «إلى الأبد» أو «إلى أبد الآبدين» (مر 3: 29 و2بط 2: 17 ويه 13 ورؤ 14: 11 و19: 3 و20: 10) ولا شك أن المعنى المقصود في هذه الألفاظ في اللغة اليونانية هو «ما لا نهاية له» كما يتضح من استعمال عبارة «إلى أبد الآبدين» 21 مرة في العهد الجديد، تشير 17 منها إلى الله والمسيح أو ما يتعلق بهما، ككمالاتهما ومجدهما وسلطانهما وما شابه ذلك (غل 1: 5 وأف 3: 21 وفي 4: 20 و1تي 1: 17 و2تي 4: 18 وعب 13: 21 و1بط 4: 11 و5: 11 ورؤ 1: 6، 18 و4: 9، 10 و5: 13 و7: 12 و10: 6 و11:15 و15: 7) وتشير واحدة منها فقط إلى سعادة الأبرار (رؤ 22: 5). وثلاثٌ إلى قصاص الأشرار (رؤ 14: 11 و19: 3 و20: 10). وكذلك استعمال تعبير «إلى الأبد» في العهد الجديد 34 مرة تشير 17 منها إلى الله والمسيح والروح القدس (لو 1: 33 ويو 8: 35 و12: 34 و14: 16 ورو 1: 25 و9: 5 و11: 36 و16: 27 و2كو 11: 31 وعب 5: 6 و6: 20 و7: 17، 21، 28 و13: 8 و1بط 1: 25 و2بط 3: 18). وفي 9 منها إلى سعادة الأبرار (يو 5: 24 و6: 58 و8: 51، 52 و10: 28 و11: 26 و2كو 9:9 و1يو 2: 17). وتشير ثلاثة منها إلى أحوال الأشرار (مر 3: 29 و2بط 2: 17 ويه 13) وخمسٌ منها إلى أمور أخرى تعبّر عما لا نهاية له (مت 21: 19 ومر 11: 14 ويو 13: 8 و1كو 8: 13 و2يو 2).

 والكلام في مر 3: 29 جاء بطريقة سلبية يفيد المعنى المطلق بأقوى عبارة، كما قيل «من جدّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية» (قُرئ في بعض النسخ «مجرم بخطية أبدية» بدل «مستوجب دينونة أبدية»). ولكن معنى لفظة «أبدية» هو هو في كلا الحالين.

(2) في ست عبارات قيل إن ذلك القصاص «أبدي» (مت 18: 8 و25: 41، 46 ومر 3: 29 و2تس 1: 9 ويه 6). ولا شك أن الإشارة في العبارة «الحياة الأبدية» أو «الهلاك الأبدي» أو «القصاص الأبدي» هي إلى «ما لا نهاية له» كما يتضح من استعمال لفظة أبدي نحو 66 مرة في العهد الجديد تشير 51 منها إلى حياة الأبرار وغبطتهم (مت 19: 16، 29 و25: 46 ومر 10: 17، 30 ولو 10: 25 و16: 9 و18:18، 30 ويو 3: 15، 16، 36 و4: 14، 36 و5: 24، 39 و6: 27، 40، 47، 54، 68 و10: 28 و12: 25، 50 و17: 2، 3 وأعمال 13: 26، 48 ورو 2: 7 و5: 21 و6: 22، 23 و2كو 4: 17 وغل 6: 8 و2تس 2: 16 و1تي 1: 16 و6: 12 و2تي 2: 10 وتي 1: 2 و3: 7 وعب 5: 9 و9: 12، 15 و1بط 5: 10 و2بط 1: 11 و1يو 2: 25 و3: 15 و5: 11، 13، 20 ويه 21).

وتشير ست منها إلى قصاص الأشرار (مت 18: 8 و25: 41، 46 ومر 3: 29 و2تس 1: 9 ويه 6). وتشير سبع منها إلى أمور أخرى تعبر عن أبديتها (2كو 4: 18 و5: 1 وعب 6: 2 و9: 14 و13: 20 و1يو 1: 2 ورؤ 14: 6) ومما يستحق الالتفات أنه في آية واحدة (مت 25: 46)  استُعملت هذه العبارة مرتين، الأولى تشير إلى عذاب الأشرار، والثانية إلى حياة الأبرار.

فإذا قلنا إن المقصود هو أن حياة الأبرار بلا نهاية، فيكون المقصود من الإشارة فيها إلى عذاب الأشرار أنه أيضاً بلا نهاية. والكلمة اليونانية المستعملة في يهوذا 6 والمترجمة «أبدية» هي كلمة نادرة الاستعمال في العهد الجديد، وتُرجمت في مرة أخرى في الإنجيل للإشارة إلى قدرة الله ولاهوته باستعمال كلمة «السرمدية» (رو 1: 20). وفي عبارات أخرى نجدها تعني «أبدي» ومن أمثلتها النار التي لا تُطفأ (مر 9: 43، 48) وأيضاً «لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يو 3: 36).

(3) قيل كثيراً في الكتاب إن الأشرار لا يرثون ملكوت الله (1كو 6: 9، 10 وغل 5: 19-21 ورؤ 21: 27). وقيل أيضاً إن حال الأشرار لا يتغير، كما في مثل الغني ولعازر (لو 16). وأن لا رجاء للهالكين «كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد» (مت 26: 24 وقارن عب 10: 26، 27). ومثل ذلك غلق الباب (مت 25: 10) وطرح العبد البطال إلى الظلمة الخارجية (مت 25: 33) والأمر للأشرار بالذهاب عن المسيح (لو 13: 27) وانفصال الخراف عن الجداء (مت 25: 33) والزوان عن الحنطة (مت 13: 30) والسمك الجيد عن الرديء (مت 13: 48) والأشرار عن الأبرار (مت 13: 49، 50) وطلب كثيرين الدخول وعدم مقدرتهم (لو 13: 24). وليس في كل ذلك أدنى تلميح إلى أن ذلك الانفصال مؤقت، فقد قصد الروح القدس به أن يعبّر عن أبدية حال الهالكين.

3- ما هي الاعتراضات على هذا التعليم باعتبار عدل الله وصلاحه؟

* (1) الاعتراض الأول: إنه لا يتناسب مع عدل الله أن يضع قصاصاً غير محدود على الإنسان.. وللرد على ذلك نقول: (أ) نحن لسنا أهلاً لأن نحدد القصاص الذي تستحقه الخطية، فنحن لا ندرك جرمها الذاتي، ولا شرف من أخطأنا إليه، ولا مقدار امتداد الشر الذي ينتج عنها. والهدف من القصاص هو المجازاة بحسب العدل، والله وحده يعلم ما هو ضروري لذلك. فيكون القصاص الذي يحدده للخطية هو المقياس الوحيد العادل الذي يدل على استحقاقها وعظم رداءتها. (ب) إذا كان لا يوافق عدل الله أن يهلك البشر بسبب خطاياهم، لا يكون الفداء ناتجاً عن النعمة أو الرحمة المطلقة، لأن الخلاص من قصاص غير عادل هو عين العدل وليس فيه صفة النعمة. وكذلك يكون خلاص الله لنا بفداء ابنه لا من قصاص عادل بل من الظلم المفرط. على أن أوضح تعليم في الكتاب هو أن تدبير الفداء بموت المسيح لأجل خلاص الخطاة دليل عظيم على محبة الله التي تفوق العقول، وعلى رحمته للذين وقعوا تحت دينونة عادلة. ولكن إذا كان العدل يقتضي أن جميع البشر يخلصون كان الخلاص من قبيل العدل، ووجب أن تتوقَّف كل ترانيم الشكر والتسبيح من المفديين في السماء وعلى الأرض. (ج) الخطية شر غير محدود لأنها ضد الله غير المحدود في شرفه وعدله وصلاحه، ولذلك تستحق قصاصاً لا نقدر نحن بحكمتنا المحدودة أن نحدده، فيجب أن نترك ذلك إلى حكمة الله. فإذا كان شر خطية واحدة (ولو كانت أصغر خطية) يبقى إلى الأبد، فذلك الشر هو غير محدود ولو ظهر صغيراً جدا بالنسبة إلى خطايا أخرى، أو بالنسبة إلى مجموع كل الخطايا المرتكبة. ولما كان شر الخطية غير محدود فإننا لا نستطيع أن نضع حداً لكراهتها أو للشر الذي ينتج عنها.

ونذكر في هذا المقام ثلاثة أمور: (أ) الخطية في طبيعتها هي الابتعاد والانفصال عن الله، والله هو ينبوع كل سعادة وقداسة، فالانفصال عنه هو ضد كل خير. (ب) هذا الانفصال لا نهاية له، وينتج من ذلك أن الخطأ والشقاء بلا نهاية إلا بشفاعة المسيح الفائقة الطبيعة التي لا يستحقها إنسان، كما قلنا في أمر الفداء. (ج) اهتمام العالم هو موت، والانحطاط والشقاء مرتبطان دائماً بالخطية. فما دام البشر خطائون فلا بد أن يكونوا ساقطين أشقياء، وهذه شريعة أخلاقية لا تتغير. وإذا كان البشر لا ينتظرون أن الله يقلب نواميس الطبيعة ليخلصهم من نتيجة تعدي تلك الشرائع، فلماذا ينتظرون أنه يغير النواميس الأخلاقية، وهي الأثبت؟

تعلمنا دينونة الملائكة الساقطين أن عملاً واحداً ضد الله هو مميت، سواء قلنا إن كل عذاباتهم الماضية والمستقبلة إلى الأبد هي قصاص ذلك الديان الواحد، أم إنها نتيجة لازمة عن الحالة التي أوصلهم إليها ذلك العصيان الواحد.

(2) الاعتراض الثاني: إن قصاص الأشرار الأبدي لا يتفق مع صلاح الله، فليس مناسباً أن يترك الله أحداً من خلائقه مديناً إلى الأبد.. وللرد على ذلك نقول: (أ) يستحيل أن يرتكب الله خطأً صغيراً كان أم كبيراً. فإذا كان الله قد سمح أن يستمر هذا المقدار العظيم من الخطية والشقاء الذي نشاهده في العالم من سقوط آدم إلى هذا الوقت، فكيف نقول إنه لا يوافق صلاحه أن يتركهما في الوجود إلى الأبد؟ ومن أين نعلم أن الأسباب التي جعلت الله يسمح لأولاده أن يكونوا خطاة وأشقياء لألوف السنين لا تجعله يسمح أن يبقي بعضاً منهم في حال الدينونة والشقاء إلى الأبد، بعد أن عصوا عليه عمداً بكل عناد، فأهانوا سلطانه ورفضوا رحمته. (ب) سيكون عدد الهالكين أخيراً قليلاً جداً بالنسبة إلى عدد الخالصين. وعندما يحيط جمهور المفديين الذي لا يُحصى بالمسيح فاديهم، سيتمجّد لأنه المخلّص الذي رفع خطايا العالم. أما عقاب الهالكين فسببه أنهم رفضوا الرحمة وأصروا على إهانة سلطانه، فلا مكان لهم في سمائه. (ج) كان المسيح معادلاً لله، ولكنه وُجد في الهيئة كإنسان، ووضع نفسه حتى الموت موت الصليب من أجل خلاصنا. فما هو العقاب الذي يستحقه من رفضه وأهانه؟

إن الملجأ العظيم لنا في هذا المشكل المخيف ليس محبة الله وصلاحه فقط بل عدله أيضاً، لأننا نعرف أن كل أحكامه بالحق والعدل. ولو صحَّ أن القصاص الأبدي ظُلم، فأول من يقاوم ذلك هو الله نفسه، لأنه العادل الكامل. ونتحقق كذلك أن الخالق القدير والأب الرحيم يعامل جميع خلائقه بكل ما يليق به من الرحمة والحنو. غير أن الله لا ينكر نفسه، ولا يغير أقواله الصريحة، ولا يناقض أحكامه الثابتة.

4- هل يجب على الكارز بالإنجيل أن يعظ عن أبدية قصاص الأشرار؟

* شك البعض في منفعة ذلك، لأن الوعظ به ينفر الناس من الله، فيصح السكوت عنه في المنبر.. وللرد نقول: إذا كان هذا التعليم صحيحاً ومُعلناً صريحاً في الكتاب ومهماً جداً للبشر، فلا يجوز للكارز بالحق الإلهي الكامل أن يتركه خوفاً من النتيجة. بل عليه أن يعظ بكل مشورة الله، ويترك النتائج لله، كما قيل «وتتكلم معهم بكلامي إن سمعوا وإن امتنعوا» (حز 2: 7 قارن بذلك ص 3: 10، 11، 18، 19). فالكرازة التي تهمل الإنذار بخطر الهلاك الأبدي تحط من شأن قداسة الله، التي يبرهنها القصاص الأبدي، وتحط من شأن عمل الفداء الذي كان ضرورياً لخلاص البشر من ذلك القصاص. وهذه الكرازة الناقصة تحرم الشعب من معرفة كمال إرادة الله، وحُكمه على الخطية واستحقاقها. وكثيراً ما ابتدأ الارتداد عن الإيمان بالإنجيل برفض قبول الإنذار بالهلاك الأبدي. ولولا خطر القصاص الأبدي وهول الهلاك العظيم لما كان هناك لزوم لموت المسيح وتقديم تلك الكفارة غير المحدودة.

فلنعظ منذرين الناس بالقصاص الأبدي، راجين أن يؤثر ذلك في قلوب البعض لإيقاظهم وتنبيههم من خطر تأخير التوبة وتأخير نوال المصالحة مع الله بالمسيح، كما قال «يا أحبائي، لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعد ما يقتل له سلطان أن يُلقى في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا» (لو 12: 4، 5).

على أن هذه الكرازة يجب أن تكون بشعور المحبة والوداعة والغيرة القلبية على إيقاظ البشر ليعرفوا أنهم خطاة غير تائبين. ولا يلزم أن يكثُر ذكر القصاص الأبدي في الكرازة، بل ينبغي أن يأخذ مقامه اللائق، فلا يتأخر الكارز عن إيضاحه، ولا يلزم السكوت عنه. قال بولس الرسول «متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر عن أن أنذر بدموعٍ كل واحد» (أع 20: 31 قارن بهذا 2كو 2: 14-17 و5: 11 و1تي 4: 16).

5- ما هو تعليم الكتاب من جهة حال الأبرار السماوية؟

* أعلن الكتاب أبدية تلك الحال بغاية الوضوح (قارن الشواهد في إجابة السؤال الثاني من هذا الفصل) فقيل «والأبرار إلى حياة أبدية» (مت 25: 46) و«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 15، 16، 36 و4: 14، 36). و«من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24). و«لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية» (يو 6: 40، 47، 51، 54، 58، 68). و«أنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو 10: 28) و«كل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 26 و12: 25، 50) و«إذ أعطيته سلطاناً على كل الجسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته» (يو 17: 2) و«آمن جميع الذي كانوا معينين للحياة الأبدية» (أع 13: 48). و«حتى كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا» (رو 5: 21) و«لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا» (رو 6: 23). و«لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية» (غل 6: 8). و«الخلاص الذي في المسيح مع مجد أبدي» (2تي 2: 10). و«إذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب 5: 9). و«دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً» (عب 9: 12، 25) و«إله كل نعمة، الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع» (1بط 5: 1). و«هذا هو الوعد الذي وعدنا هو به في الحياة الأبدية»  (1يو 2: 25 و3: 15 و5: 11، 13، 20 ويه 21). و«هم سيملكون إلى أبد الآبدين» (رؤ 22: 5). فما أعظم هذا التعليم الواضح المبارك من كلام السيد والرسل الأطهار.

6- ماذا يجب أن يكون تأثير تعليم الكتاب في هذا الموضوع في قلوب الأشرار والأبرار؟

* يجب أن يشعر الأشرار بالخطر الذي يهددهم، وأن يروا لزوم الرجوع إلى الرب حالاً ما دام نهار، لئلا يأتي الليل الذي ليس فيه توبة ولا رجاءٌ.

وعلى الأبرار أن يتعزوا كل التعزية، ويتمسكوا بالرجاء الموضوع أمامهم بفرح وسرور، وأن يواظبوا على حياة التقوى متأكدين أنه متى أُظهر المسيح حياتهم فحينئذ يُظهرون معه في المجد. ويجب عليهم أن يواظبوا على الاجتهاد والسهر، منتظرين ذلك الإكليل الذي وُضع لهم، راجين إتمام تلك المواعيد المجيدة لكل من يغلب، متأنين إلى مجيء الرب، «منتظرين ذلك الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح» (في 2: 13).

الفصل التالي    الفصل السابق


علم اللاهوت النظامي

كتب أخرى

الرد على الإسلام