الفصل التاسع والأربعون

القيامة العامة

 

1 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في القيامة؟

* هو أن أجساد جميع البشر ستقوم من التراب في اليوم الأخير عند مجيء المسيح ثانيةً، وأن تلك القيامة ستكون إمّا للمجد أو للهوان. وستشترك أجساد الذين ماتوا برجاء الخلاص بالمسيح في الفداء المجيد بواسطة القيامة، وأما الذين ماتوا في خطاياهم تحت حكم الموت الأبدي فستشترك أجسادهم أيضاً في هذا النصيب المخيف. فالقيامة إمّا للحياة وإمّا للدينونة. أما الذين يكونون أحياء عند مجيء المسيح فستتغير أجسادهم إلى كائنات روحية بلا موت ولا قيامة. ومن العبارات التي تثبت هذا الاعتقاد قول المسيح «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28، 29 قارن أع 24: 15 و1كو 15: 13-52 وفي 3: 21 و1تس 4: 14-16 ورو 8: 11 وأع 2: 25-34 و13: 34)

2- ما هي الأدلة على قيامة المسيح، ما هي العلاقة بين قيامته، وقيامة شعبه؟

* (انظر فصل 38 س 2).

(1)       نبوة المسيح بقيامته (يو 2: 19-21 ولو 9: 31)

(2)       شهادة الرسل بذلك صريحاً كشهادة المسيح أيضاً (لو 24: 39 ويو 20: 27 ورو 6: 4، 5 وأف 2: 6 و1كو 15: 17 ورو 8: 11)

(3) شهادة جماهير من معاصري المسيح وأهل القرون الأولى بعد العصر الرسولي (انظر فصل 19 س 12).

أما علاقة قيامة المسيح بقيامة شعبه فهي مثال وعربون، لأن المسيح فدى الجسد مع النفس (رو 8: 11، 23 و1كو 6: 13-20) ومواعيد الفداء ليست للنفس فقط بل للجسد أيضاً. وبما أن المؤمن متحد بالمسيح في موته كذلك هو بقيامته (1كو 6: 15 و15: 21، 22 و1تس 4: 14) كما أعلن الرسل العلاقة بين قيامة المسيح وقيامة شعبه (1كو 15: 13، 49 وفي 3: 21 و1تس 4: 14 و1يو 3: 2).

3- ماذا يعلمنا الكتاب عن جسد القيامة؟

* (1) إنه يكون روحانياً (1كو 15: 44) مع أنه لا بد أن يبقى على صورة الجسد البشري، لأن المسيح ظهر لتلاميذه بعد القيامة بهيئة بشرية ولم تزل في جسمه علامات تميَّز بها قبل موته. والأرجح أيضاً أن جسد القيامة يشبه الجسد الأرضي، إلا أنه مع تلك المشابهة يمتاز بأنه ممجد بمجد روحاني سماوي.

(2) إنه يكون مثل جسد المسيح (في 3: 21). (اقرأ ما قلناه في ارتفاع المسيح في فصل 38 س 4).

(3) إنه يكون مجيداً لا يقبل الفساد، منزهاً عن الهوان، خالداً، ذا قوة عظيمة (1كو 15: 42-44، 51-54).

(4) إنه يكون كالملائكة في كونه لا يقبل الزواج (مت 22: 30).

(5) إنه يتغيَّر فلا يكون بعد لحماً ودماً (1كو 15: 50).

أما قولنا إن جسد القيامة يحصل على قوة جديدة، فالمقصود به أن قواهُ تتغير تغيُّراً عظيماً حتى نستطيع بسهولة ما لا نستطيعه في هذه الحياة. فإننا نعلم جيداً ضعفنا هنا ونقص أفعالنا وقلَّة عدد حواسنا وضيق دائرتها، ولكننا لا نعلم ونحن على الأرض كيف يكون ذلك في الآخرة، ولا إلى أي حد تزيد قُوانا. ويُحتمل أننا سنرى كل سمو انتظاراتنا في هذا الأمر أقل من الحقيقة، لأنه لم يظهر بعد ماذا سنكون ولا عرفناه من الاختبار. وربما تكون لنا حواس جديدة وأسمى قدرة على إدراك الأمور الخارجية ومعرفة طبيعتها والابتهاج من عجائبها وجمالها. ولعلنا نصير هناك قادرين على الانتقال بسرعة النور أو الفكر من أول الكون إلى آخره، كما أننا نرى أبعاداً بلا حدود. وليس في هذا مبالغة، لأننا نعلم بالتأكيد أنه لم ترَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدَّه الله للذين يحبونه (1كو 2: 9)

وما قلناه في مشابهة أجسادنا المستقبلة بأجسادنا الحاضرة (لو 24: 39 ويو 20: 27 وأع 9: 5) يتضمن أننا لا نعرف أصدقاءنا ومعارفنا فقط في السماء، بل نعرف أيضاً الأنبياء والرسل والمشاهير في كل تاريخ الكنيسة الذين قرأنا أخبارهم ونحن على الأرض. ومما يؤيد هذا الاعتقاد:

(1) إن ذلك ممكن، فإن جسد المستقبل هو الجسد الحاضر، فلا مانع أن تلك الوحدة تتضمن وحدة الصفات الظاهرة مع ما تتضمنه من الأمور الأخرى.

(2) عرف التلاميذ موسى وإيليا لما ظهرا مع المسيح على جبل التجلي.

(3) أننا سنجلس مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وهذا يقتضي أننا سنعرفهم، وإذا عرفناهم فلا شك في أننا سنعرف غيرهم أيضاً.

(4) وعدنا الله أن كأس سرورنا تمتلئ في السماء. وفرحنا لا يتم إذا قُطعت كل صحبة في السماء بيننا وبين الذين نحبهم على الأرض، فإن الإنسان مخلوق اجتماعي، تميل نفسه إلى الأُلفة. وبما أنه سيبقى إنساناً في السماء فالأرجح أن يبقى ميّالاً للألفة هناك. والله لا يضع هذه الاشتياقات الظاهرة في قلوب شعبه لو لم يقصد أن يشبعها فيما بعد. فإن داود عندما ندب ابنه قال «أنا ذاهب إليه، وأما هو فلا يرجع إليَّ» وهكذا شعرت كل القلوب الحزينة من ذلك اليوم حتى الآن.

(5) يعلمنا الكتاب أن الإنسان يحتفظ بجميع قُواه العقلية في الحياة الآتية. والذاكرة هي من أعظم وأهم هذه القوى. فإذا لم نبقَ حاصلين عليها كان ذلك منافياً لصفات الكمال، ولا يبقى للماضي أثر عندنا، فندخل السماء وكأننا مخلوقون من جديد، لا نذكر شيئاً من أفضال فداء المسيح علينا ولا عناية الآب السماوي بنا. فلا بد أن الرب يُبقي ذاكرتنا ويمجدها ويقويها لنسبحه ونحمده.

(6) القول إننا نعرف في الحياة الآتية الذين نعرفهم ونحبهم على الأرض هو ما اعتقده جميع البشر، وهو أمر مسلَّم به في الكتاب بعهديه، فإن جميع الآباء قالوا عند موتهم إنهم يذهبون إلى آبائهم، ووعظ الرسل المؤمنين لكي لا يحزنوا على المنتقلين حزن الذين لا رجاء لهم، وأكد لهم أنهم سيتّحدون أيضاً مع جميع الذين يموتون في الرب.

4- ما هي العلاقة بين الجسد الذي يُدفن والجسد الذي يقوم؟

* يجب أن نجاوب سؤالين متميزّين، الأول: هل تعلّم الكتب المقدسة أن جسد القيامة هو ذاته الجسد الذي يوضع في القبر؟ والثاني: بماذا تقوم هذه الوحدة؟

(1) ونجيب على السؤال الأول بأن الجسد الذي سنلبسه في القيامة هو بذاته الجسد الذي لنا الآن في هذه الحياة، لأن القيامة هي إعادة حياة ما كان ميتاً وليست إعادة حياة شيء آخر يشبهه في طبيعته. وكل ما قلناه برهاناً على قيامة الجسد يبرهن أن الذي يقوم هو نفس الجسد. والجسد الذي وردت النبوة والوعد بقيامته وتغييره هو جسدنا المائت، جسد تواضعنا الفاسد. وقيامتنا تكون مشابهة لقيامة المسيح الذي قام بجسده الذي صُلب ووُضع في القبر، وفيه قام من الأموات. وإلا فلا تكون قيامته قيامة. وهذه الوحدة هي نفس الأمر الذي برهنه المسيح لتلاميذه المتشككين، فأراهم يديه ورجليه المثقوبة وجنبه المطعون. ومنذ أعلن المسيح ذلك صارت كلمات المؤمنين عند دفن أحدهم «نسلّم هذا الجسد للقبر على رجاء القيامة المباركة».

(2) وأما جواب السؤال الثاني فهو أن شروط الوحدة تختلف باختلاف المواد، ويتضح ذلك من أن الوحدة في الجماد (الحجر ونحوه) تتوقَّف على دوام المادة والصورة معاً. فإذا تحول الحجر إلى غبار وذُري فالمادة نفسها تبقى، ولكن الصورة تتغير، ولذلك تزول الوحدة. أما وحدة البزر والنبات فمستقلة تقريباً عن دوام المادة على حجمها الأصلي وصورتها، فإن مادة النبات تزيد أثناء نموه وتتغير صورته. أما الوحدة في المصنوعات البشرية (كالتمثال أو الصورة المرسومة بالزيت) فلا تقوم بمجرد وحدة المادة، فإن ذلك أمر ثانوي، لأن تمثال رمسيس الثاني كان مرة مُخفى في كتلة من الحجر، والجزء الداخلي من تلك الكتلة (الذي صار تمثالاً) لم يكن وهو ضمن الكتلة نفس التمثال، مع أنه كان يحتوي على كل دقيقة من التمثال مخفياً فيه. فلو أمكن أن ترجع إليه الدقائق التي نُحتت منه لبقيت المادة هي هي، ولكن صورة التمثال تضيع. فوحدة التمثال قبل إخراجه، وبعد أن عمل وظهر للعيون تمثالاً، هي ليست في كون المادة، هي بل في الصورة العقلية التي في ذهن الصانع قبل عمله وبعده. وكذلك الوحدة في صورة مصوَّرة بألوان الزيت لا تتوقف على دوام دقائق المادة فيها بدون أدنى تغيير، بل على رسومها وألوانها وهيئتها المنظورة والرسم العقلي الممثَّل فيها. وأما الوحدة في ذوات الحياة فهي أدق وأرفع نوعاً مما سبق، لأن الإنسان هو ذات الطفل الذي وُلد قبل ذلك بسنين ولم يزل هو هو في الشيبة والبلوغ والشيخوخة، ولكن قد تغيرت مادة الجسد تغيراً دائماً حتى أنها ربما تغيرت تماماً كل سبع سنوات ولم يبق في الجسد عند نهاية تلك السنين دقيقة من المادة الأصلية التي كانت فيه عند بدايتها. فإذا عاش إنسان سبعين سنة فكأنه صار عشرة أشخاص، لأن مادة الجسد تغيرت عشر مرات. فالوحدة في ذلك الإنسان قائمة بدون وحدة المادة.

وليس القصد من الكلام على أنواع الوحدة المختلفة أن نبين به شيئاً في حقيقة الوحدة القائمة بين أجسادنا عند الموت وفي القيامة، لأن ذلك سر لا يُعرف، ويجب أن نترك هذا الموضوع لأن الكتاب لم يذكره. وإنما القصد بذلك أن نبين إمكانية الوحدة بين أجسادنا الحاضرة والآتية. فإذا قلنا إننا لا نعلم بماذا تقوم تلك الوحدة، فقيامة أجسادنا أمر مؤكد لكنه خارج عن دائرة الاختبار البشري. وما نتعلمه من ذلك أن جسد القيامة يكون جسد الموت نفسه، كما أن جسد الموت هو جسد الولادة عينه.

5- بماذا اعترض البعض على إقامة الجسد نفسه بعد الموت؟

*اعترض البعض بأن ذلك غير معقول، لأن الجسد بعد الموت ينحل إلى عناصره الأصـلية، وربما صار بعد ذلك جزءاً من التراب يدخل في النباتات التي تأكلها الحيوانات، والحيوانات يأكلها البشر، ولذلك تدخل أجساد موتى الناس في أجساد أحيائهم، فلا يمكن أن يرجع كل جسد بدقائقه الأصلية.. فنجيب إن الكتاب المقدس لا يقول إن دقائق الجسد نفسها ترجع في القيامة، بل يقول «الذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير، بل حبة مجردة ربما من حنطة أو أحد البواقي. ولكن الله يعطيها جسماً كما أراد. ولكل واحد من البذور جسمه» (1كو 15: 37) على أنه لا بد من علاقة بين الجسدين كما قال الرسول «لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد.. ويُزرع في هوان ويُقام في مجد» (1كو 15: 53، 43) وفي هذا المشكل يجب أن نتجنب التطرُّف من وجهين: الأول: القول بإقامة الدقائق الأصلية دون غيرها. والثاني: القول بعدم وجود علاقة أبداً، أي أن الله سيخلق للنفس جسداً آخر جديداً ليس له علاقة بالأول. وعلى ما يظهر من أقوال بولس، نرى أن العلاقة ليست قائمة في نفس الدقائق المادية، بل في سرٍّ يشبه السر في خروج النبات من بزره، كما قيل: «يا غبي، الذي تزرعه، لا يحيا إن لم يمُت. والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير بل حبة مجردة ربما من حنطةٍ أو أحد البواقي» (1كو 15: 36، 37). فالجسد المزروع عند الموت هو بزرة الجسد المقام عند القيامة حتى يصح القول إن هذا المائت قد لبس عدم موت، وإنه من الجسد العتيق خرج الجسد الجديد.

الفصل التالي    الفصل السابق


علم اللاهوت النظامي

كتب أخرى

الرد على الإسلام