الفصل الثلاثون

عهد الفداء

1 - كيف يتضح من الكتاب المقدس أن عمل الفداء وُضع على صورة عهد؟

* يتضح من التعبير عنه دائماً بالألفاظ العبريّة واليونانية المستعملة في كلتا اللغتين للإشارة إلى العهد. كما أن عمل الفداء يتضمن أركان العهد ولوازمه (2كو 3: 6، 14 وغل 3: 15 و4: 24 وعب 7: 22 و8: 6-10 و9: 15 و12: 24 و13: 20).

2 - ما هو القول الصحيح في حقيقة هذا العهد؟

* يظهر وكأن في نصوص الكتاب المقدس تشويشاً من جهة فريقي هذا العهد، فقد ورد أحياناً أن المسيح أحد طرفيه، وورد أحياناً أنه وسيطه وضامنه، وأن الطرفين المتعاهدين هما الله وشعبه. وقد وفّق بعض اللاهوتيين بين تلك النصوص بأن المسيح هو نائب المؤمنين في العهد كما كان آدم نائب البشر في أمر السقوط، كما أن المسيح قام في ذات العهد مقام وسيط، فتعهّد وتوسّط. واستحسن بعض المفسرين أن يقدّموا العهد في صورتين: الأولى علاقة الله الآب بالمسيح الابن في عمل الفداء، والثانية علاقة الله الآب بشعب المسيح المؤمنين. فعمل الفداء بكماله يتضمّن عهدين، أولهما بين الله والمسيح ويُسمّى «عهد الفداء» وثانيهما بين الله والمؤمنين ويسمّى «عهد النعمة» وهو الذي صار فيه المسيح وسيطاً وضامناً. وبين هذين العهدين فرق في المتعاهدين والمواعيد والشروط، والأصل فيهما عهد الفداء المبني عليه عهد النعمة.

3 - ما هو المقصود بعهد الفداء؟

* المقصود به هو العهد بين الآب والابن في شأن خلاص الإنسان، وهو من الأمور التي تفوق إدراكنا، ولذلك يجب قبول تعاليم الكتاب المقدس حتى لو لم نقدر أن ندرك ما بها من أسرار. نعم يوجد إله واحد فقط، أي كائن واحد إلهي له جميع الصفات الإلهية، ولكن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، وهم جوهر واحد متساوون في القدرة والمجد. ولذلك يمكن عقد عهد بين أقنوم وآخر من الأقانيم، وإرسال أقنوم واحد لغايةٍ ما، واتضاع أقنوم واحد تحت سلطان أقنوم آخر. ويمكن الواحد أن يحب الآخر ويخاطبه. فيمكن للآب مثلاً أن يرسل الابن ويعطيه عملاً ليعمله ويَعِدُه بالمكافأة. غير أن هذا الموضوع فوق إدراكنا. ولكن بما أن الكتاب عَلّمه وجب أن يكون قسماً من الإيمان المسيحي (انظر فصل 13 س 1-32).

4 - كيف يتبيّن صدق هذا التعليم في عهد الفداء؟

* يتوقف إثبات عهد الفداء بين الآب والابن على ما أعلنه الكتاب. فالخلاص كان مكتوماً منذ الدهور في العقل الإلهي (رو 16: 25 وأف 3: 9 وكو 1: 26) وكان قبل تأسيس العالم (1بط 1: 20) وقال المسيح إن المواعيد كانت قبل تجسده، وإنه أتى إلى العالم ليُجري ما فوّضه الآب في عمله. فإذا عيّن شخصٌ لشخصٍ آخر عملاً بشروط معلومة، ووعده بالمكافأة عندما يتممه، ووافق المعيَّن على الشروط ووعد أن يتممها، فذلك عهد. وكل هذا يصدق على ما جرى بين الآب والابن، فإن الكتاب يقول إن الآب عيّن للابن عملاً، وأرسله إلى العالم ليعمله، ووعده بجزاءٍ عظيم متى أكمله. فنرى في ذلك : المتعاهدَين، والوعد، والشرط. وهذه أركان العهد الجوهرية (مز 40 وعب 10: 9 ويو 17: 4، 18 ولو 2: 49 وغل 4:4 و1يو 4: 9، 10).

لقد جاء المسيح إلى عالمنا ليتمم عمله، وقد أرسله الآب للقيام بذلك، ووعده مواعيد خاصة تتعلّق بإتمام العمل المعيّن له، وكان الابن يحسب نفسه ملتزماً بتتميم ما وعده به. وكل ذلك من جوهر العهد.

5 - ما الذي أخذه المسيح على عاتقه ليتمم عمل الفداء؟

* (1) أخذ طبيعتنا ووُلد من امرأة ووُجد في الهيئة كإنسان، وكان ينبغي أن يكون ذلك تجسداً حقيقياً لا مجرد تخلٍّ، بحيث يكون عظماً من عظامنا ولحماً من لحمنا يشبه إخوته في كل شيء. ومع ذلك يكون بدون خطية ليمكنه أن يرثي لضعفاتنا، وأن يشعر مع المجرّبين لأنه قد تجرّب (عب 4: 15).

(2) وُلد تحت الناموس (غل 4:4) وتعهَّد باختياره أن يعمل كل برٍّ بطاعته لشريعة الله طاعة تامة في جميع صورها التي فُرضت على الإنسان (مت 5: 17، 18).

(3) قدَّم كفارةً كافية لأجل خطايا العالم، وحمل خطايانا، وصار لعنةً لأجلنا، وقدم نفسه ذبيحةً لله عن خطايا البشر (إش 53 و2كو 5: 21 وغل 3: 13 وأف 5: 2). وليتمم ذلك التزم أن يعيش على الأرض، ويحتمل ما احتمله من الحزن والألم والعار والموت. وأما ما كان عليه أن يعمله بعد ذلك فيختصّ بارتفاعه.

6 - بماذا وعد الآب الابن ليقوم الابن بعمل الفداء؟

* وعد أن يهيّئ له جسداً يكون له مسكناً مصنوعاً مثل جسد آدم، لكنه منزه عن الفساد ولا عيب فيه (عب 10: 5). وأن يعطيه الروح القدس بدون كيل ويملأ كل طبيعته البشرية من النعمة والقوة (يو 3: 34). وأن يكون دائماً عن يمينه ليعضده ويعزيه في ساعات جهاده مع قوات الظلمة، وأن يسحق الشيطان تحت رجليه، وأن ينقذه من سلطان الموت ويرفعه إلى يمينه في السماء ويدفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض (في 2: 6-11 ويو 5: 22). وأن يفوّض إليه إرسال الروح القدس لتجديد المؤمنين وتنويرهم وإرشادهم وتعزيتهم وتقديسهم (يو 17: 2 و7: 39 وأع 2: 33). وأن يختار له شعباً لا يُحصى ليشتركوا في فوائد الفداء، ويملّكه أخيراً على كل أمم الأرض (يو 6: 37-39). وأن يُقبِل إليه جميع الذين أعطاهم الآب له ليكونوا محفوظين حتى لا يهلك منهم أحد (يو 6: 37). وأن يمجد الآب نفسه بالابن، ويُظهِر بواسطته وفيه وفي كنيسته الصفات الإلهية الكاملة أمام أعين جميع الخلائق العاقلة، فيرى المسيح من تعب نفسه ويشبع (أف 1: 12-14).

7 - ما هو عهد النعمة؟

* هو العهد الذي عقده الآب بينه وبين شعبه المؤمنين، ليتمّم الغاية العظمى من عهد الفداء، بالكيفية المعيّنة في عهد النعمة. وقد قُطع هذا العهد مع البشر فور سقوط آدم ونقض عهد الأعمال، وهو ثابتٌ في كل الأزمنة من عصر آدم إلى نهاية العالم، غير أن هيئته الخارجية تختلف مع مرور الدهور. ففي زمان موسى وفي تاريخ الكنيسة اليهودية أُجري على هيئة النظام الموسوي. ومنذ مجيء المسيح أُجري على هيئة النظام الإنجيلي. وعلى مرور القرون منذ السقوط قُطعت عهود مختلفة مع الآباء وغيرهم من الأمة اليهودية. على أن هذه العهود بجملتها ضمن عهد النعمة، وهي إعلانات مكرّرة للعهد الأصلي الأساسي الدائم بين الله وشعبه. ومن أمثلة ذلك العهد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومع بني إسرائيل، ومع داود، وكذلك مع كل مؤمن في كل عصر، لأن كل من ينال القبول عند الله ويقبل رجاء الخلاص برحمته (سواء كان في زمن العهد القديم أو الجديد) ينالهما بدخوله في شركة عهد النعمة مع الآب السماوي.

وعند إتمام عهد الفداء تُقدَّم فوائده لجميع البشر على شرط الإيمان وقبول وسائط الخلاص، سواء كان في زمن النظام الموسوي أو النظام الإنجيلي، لأن المسيح قدم كفارة عامة عن خطايا العالم، ولكل واحد حق الدخول في عهد النعمة إذا طلب ذلك. ويعلّمنا الكتاب أنه لا يدخل في ذلك العهد غير المختارين الذين يقبلون شروطه ويقبلون دعوة الإنجيل وإرشاد الروح القدس.

ويعلّمنا الكتاب أن علاقة المسيح بهذا العهد هي علاقة الوسيط والضامن، وأن كفارة المسيح هي أساس العهد الذي لا يُقطع إلا بشرط قبول المسيح بكمال وظيفته، مخلِّصاً ووسيطاً.

8 - ما معنى تسمية المسيح «وسيط عهد النعمة»؟

* معناه أن عهد النعمة عُقد بين الله والمؤمنين من البشر الساقطين، بواسطة المسيح، وبناءً على ما فعله. فإن المسيح تمم كل ما يقتضيه العهد وهو مدبِّره، والفاعل العظيم في إجرائه. وفي كل ذلك ليس هو وسيطاً بمجرد معنى «المتكلم عن لسان الإنسان لله» كما فعل موسى (غل 3: 19) بل هو وسيط بمعنى أن وساطته حقيقية فعالة، لأنه قدم نفسه ذبيحة، وأخذ وظيفة النبي والكاهن والملك، ودُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض (مت 28: 18). وهو لا يزال يشفع في المؤمنين الذين أخذوا على أنفسهم واجبات هذا العهد العظيم.

وقيل ثلاث مرات إن المسيح «وسيط العهد» (عب 8: 6 و9: 15 و12: 24) وفيها وُصف العهد أنه «الأعظم» أو «الجديد» بالمقارنة بالنظام الموسوي. وكلاهما من أنظمة ذلك العهد الأصلي الدائم أي عهد النعمة. نعم إن المسيح وسيط عهد النعمة في كل نظام، غير أن وساطته أُعلنت بوضوح في النظام الإنجيلي، وكانت وساطته في تقديم نفسه كفارة منذ تأسيس العالم. على أنه قبل أن يتمم ذلك فعلاً كان البشر يؤمنون به بواسطة الإشارات الرمزية في الذبائح الموسوية، ولو أن معرفتهم بذلك كانت جزئية بالنسبة إلى معرفتنا نحن اليوم. فللعهد الجديد بهذا المعنى فضلٌ على العهد القديم (أي الموسوي) لأن المسيح ظهر في العهد الجديد ابناً في بيته ليُجري العهد علانية. وأعلن أنه الوسيط الوحيد بين الله والناس (1تي 2: 5).

9 - ما معنى تسمية المسيح ضامن عهد النعمة؟

* سُمّي المسيح «ضامن عهد النعمة» في الإنجيل مرة واحدة، في القول «على قدر ذلك قد صار يسوع ضامناً لعهد أفضل» (عب 7: 22). والإشارة في هذه الآية هي إلى العهد الإنجيلي تفضيلاً له على العهد الموسوي. والكلام في عب 7: 23-28 في كهنوت المسيح تفضيلٌ له على الكهنوت اللاوي، لأنه كاهن وضامنٌ معاً، بمعنى أسمى من كهنوت العهد الموسوي. والمسيح ضامنٌ في النظام الإنجيلي لأنه كاهن وملك معاً. فهو ككاهن يقوم مقامنا أمام الله، ويقدم عنا ذبيحة مقبولة. وكملكٍ يتكفل بإتمام كل مواعيد العهد، ويوزع علينا فوائده، ويحامي عن شعبه ويقيهم من الهلاك ما داموا أمناء وثابتين في ما عليهم من الواجبات باعتبارهم شركاء في العهد. فهو ضامن الله لنا، وضامننا لله، وهو خلاصنا بكل المعاني.

10 - ماذا يُشترط في البالغين ليشتركوا في فوائد عهد النعمة؟

* يُشترط فيهم أن يؤمنوا بالمسيح بمعنى أنهم يقبلونه على أنه ابن الله، الذي فيه ولأجله مُنحت بركات هذا العهد للبشر. فما دمنا غير مؤمنين وغير تائبين نكون أجنبيين وغرباء عن عهد النعمة، بدون إله وبدون مسيح. وعلينا أن نرفض كل ما يحسبه الناس طريقاً للخلاص غير ذلك المخلِّص. وأما قولنا إن الإيمان شرط الدخول في عهد النعمة ونوال فوائده فيحتاج لإيضاح ،لأن كلمة «شرط» استُعملت بمعنيين: (1) المكافأة الاستحقاقية التي لأجلها تُمنح فوائد العهد، وبموجب هذا المعنى تكون الطاعة الكاملة شرط عهد الأعمال الذي أُقيم أصلاً مع آدم. فلو بقي آدم في كمال الطاعة لاستحقّ البركة الموعود بها. (2) كل عمل كُلِّفنا بتتميمه لنحصل على مواعيد العهد بغضّ النظر إلى استحقاقنا. فيمكن أن يكون مثلاً مجرد طلب تلك المواعيد شرطاً للحصول عليها، وهو ليس من باب الاستحقاق. وبموجب هذا يكون شرط الإيمان هو شرط عهد النعمة. فإنه لا استحقاق في الإيمان، بل هو قبول عطية مقدمة مجاناً، وذلك القبول شرط نوالها.

11 - ما هي مواعيد عهد النعمة؟

* القول الأنسب في التعبير عن مواعيد عهد النعمة وفوائده للمشتركين فيه هو القول «أكون لكم إلهاً، وأنتم تكونون لي شعباً» (لا 26: 12). وهذا يشمل بركات لا توصف، فالله يكون إلهنا لا باعتبار أننا نعبده ونسجد له فقط، بل باعتبار أنه نصيبنا ومصدر خيراتنا، الروحية والزمنية. ونحن نكون شعبه بمعنى أننا نكون مقتناه الخاص، وهو قد اختارنا لنكون موضوع رحمته ورضاه، وذلك يتضمن تأهيلنا في كل شيء لهذا النصيب السامي، فإننا نتبرر ونتقدس ونتمجد بالوسائط التي ننالها من رحمته. وأخيراً نكون مشابهين لصورته ومكمَّلين بنعمته.

12 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في وحدة عهد النعمة في كل نظام؟

* عهد النعمة واحدٌ في كل الأزمنة منذ أيام آدم إلى نهاية العالم. فشروط الخلاص ووسائطه هي نفسها في زمن الآباء الأولين، كما في تاريخ النظام الموسوي، كما هي أيضاً في زمن نظام الإنجيل. ولم يخلص أحد من البشر إلا بواسطة الفادي الوحيد الذي قدم نفسه كفارةً عن الجميع.

وقد أنكر البعض الوعد بالخلاص على شرط الإيمان في نظام العهد القديم. وقال البعض إن القدماء لم يستفيدوا من ممارسة طقوسهم، بل حُفظوا بعد الموت في مكانٍ معيّن لهم حتى أتاهم المسيح عند نزوله في الهاوية بعد موته وخلّصهم، لأن النعمة (على قولهم) تُمنح بالطقوس الكنسيّة، ولا خلاص بوسائط العهد القديم. ومما ساقهم إلى هذا الاعتقاد أن الله رفض بعض بني إسرائيل رغم ممارستهم الطقوس التي كانت مفروضة عليهم. وبما أن هذا يخالف قولهم بفاعلية الطقوس، افترضوا أن طقوس العهد القديم تختلف عن طقوس كنيستهم، وبالتالي فإن الذين عاشوا قبل مجيء المسيح لم يخلصوا تماماً، وعند الموت لم يُقبَلوا في السماء بل ذهبوا إلى مكانٍ بقوا فيه إلى مجيء المسيح الذي بعد موته نزل إلى الهاوية لينقذهم.

أما تعليم الكتاب المقدس في هذا الشأن فخلاف ذلك، لأنه يعلن شرطاً واحداً للخلاص منذ البدء، فهناك فادٍ واحد وشرط واحد هو الإيمان للاشتراك في بركات الفداء. وهناك خلاص واحد تام لكل من يقوم بإتمام ذلك الشرط في العهد القديم كما في العهد الجديد. غير أن الفادي في العهد القديم هو المزمع أن يأتي، وفي العهد الجديد هو الذي قد أتى. وفي العهد القديم لم تتضح كيفية الخلاص بذبيحة المسيح، ولو أن الذبائح الموسوية أشارت إلى ذلك، وزادت أقوال الأنبياء تلك الإشارات وضوحاً، فآمن الأتقياء من اليهود بالخلاص برحمة الله بواسطة الذبائح التي عيَّنها، واتكلوا على الوعد الإلهي بالفادي، فاهمين جوهر المعنى لا تفصيله.

13 - ما الدليل على أن الوعد بالخلاص كان قبل مجيء المسيح؟

* دليل ذلك أن الله وعد آدم وقت سقوطه بفادٍ هو «نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية» (تك 3: 15). أي أن مولود امرأة سيغلب الشيطان ويبيده. والإشارة في ذلك إلى المسيح الذي غلب الشيطان. وقيل أيضاً ما معناه إن آمال الآباء لم تكن محصورة في الحياة الحاضرة، ولذلك عرفوا الحياة الآتية (عب ص 11). وقيل بهذا المعنى إن إبراهيم كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله (عب 11: 10). والمقصود بالمدينة «السماء» من عب 11: 16 «ولكن الآن يبتغون وطناً أفضل أي سماوياً، لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعى إلههم لأنه أعدّ لهم مدينة». وقيل إن أولئك الأفاضل القدماء قد ضحوا باختيارهم بكل خيرٍ أرضي، حتى بالحياة نفسها، وإنهم لم يقبلوا النجاة، وذلك لينالوا قيامةً أفضل. ويظهر أن هذا كان إيمان اليهود العام قبل مجيء المسيح بزمن طويل من قول شهيدٍ عند موته لمعذِّبه كما جاء في 2 مكابيين 6: 26 «فإني لو أفلتُّ في هذا الزمان من عذاب الناس، فلا أفلت من يد الضابط الكل، لا حياً ولا ميتاً». وقد علّمنا المسيح أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب لا يزالون أحياء، وأن المكان الذي فيه إبراهيم هو السماء.

14 - ما الدليل على أن المسيح هو الفادي في كل نظام؟

* دليل ذلك أن المسيح دُعي في العهد القديم «نسل المرأة» و«زرع إبراهيم» و«ابن داود» و«الغصن» و«عبد الرب» و«رئيس السلام». وهذا يعني أن القدماء اعتقدوا منذ البدء أن «نسل المرأة» يكون رجاء العالم والمنقذ العظيم. وقد ظهر المسيح في كتب العهد القديم بجميع وظائفه كنبيٍّ وكاهنٍ وملك، ووُصف عمله بأنه كفارة وفداء. ومن نصوص العهد الجديد التي تدل على وجود فادٍ في العهد القديم قول المسيح لليهود «فتشوا الكتب.. وهي التي تشهد لي» (يو 5: 39). وقال إن موسى والأنبياء كتبوا عني (يو 5: 46). وقال البشير لوقا إن المسيح «ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصّة به في جميع الكتب» (لو 24: 27). ولما ابتدأ الرسل يبشرون بالإنجيل كانوا في كل مكان يبرهنون من الأسفار المقدسة أن يسوع هو المسيح، بل كانوا يشيرون إلى تلك الأسفار دائماً ليثبتوا كل ما علّموه من صفاته وعمله. وهكذا أثبتوا من العهد القديم لاهوته، وتجسده، وموته ذبيحةً عن الخطية، وكهنوته، وأحوال ملكوته.

ولقد أعلن الله ذلك في العهد القديم ليحوّل عيون اليهود إلى المسيح بالرجاء والإيمان، كما يتضح من قول التلميذين المنطلقين إلى عمواس «ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل» (لو 24: 21) وهذا يبيّن انتظار الشعب ورغبته في ذلك الفادي. وذكر بولس كثيراً أن المسيح رجاء إسرائيل، وقال إن وعد الفداء بالمسيح كان الموضوع الأعظم لرجاء شعب الله. ولما حوكم في مجالس اليهود وأمام أغريباس كان جوابه واحداً، وهو أن تبشيره بالمسيح وبالقيامة جزءٌ من ديانة آبائه، التي كان متمسكاً بها بخلاف خصومه الذين تركوها. ولا حاجة إلى إطالة الكلام في هذه المسألة لأن القول بمسيحٍ مزمع أن يفدي شعب الله متضمَّن في كل العهد القديم، وفي كل مكان في العهد الجديد، فهو الوعد العظيم الذي تم.

15 - ما الدليل على أن الإيمان كان شرط الخلاص في النظام القديم؟

* بما أن نفس الوعد الذي كان للذين عاشوا قبل مجيء المسيح هو الآن لنا في الإنجيل، وذات الفادي الذي أُعلن لهم هو المقدَّم لنا كموضوعٍ لإيماننا، فيكون شرط الخلاص الذي كان هو نفس الشرط الآن. ولم يكن المطلوب مجرد الإيمان بالله والاتكال عليه أو مجرد التقوى، بل أيضاً الإيمان بالفادي الموعود به. ويتضح هذا من ثلاثة أمور:

(1) تعليم الرسول بولس أن الإيمان، لا الأعمال، كان شرط الخلاص قبل المسيح وبعده.

(2) تعليمه أن الإيمان المقصود هو إيمان بوعد، لا مجرد تقوى أو ثقة بالله. ومن ذلك قوله في الكلام عن إبراهيم «ولا بعدم إيمانٍ ارتاب بوعد الله، بل تقوّى بالإيمان معطياً مجداً لله، وتيقّن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضاً» (رو 4: 20، 21).

(3) الوعد بالفداء بالمسيح هو موضوع إيمان الآباء، كما قال الرسول في غل 3: 14 إن البركة الموعود بها إبراهيم صارت للأمم. إذاً تلك البركة هي نفس البركة المقدَّمة الآن في الإنجيل لجميع البشر. فلا شك أن شعب الله الحقيقي في العهد القديم كانوا يحسبون أنفسهم ملزمين بالإيمان بالوعد الإلهي ويعتقدون أن ذلك شرط خلاصهم. ومن أعظم أهداف رسالة العبرانيين بيان أن النظام القديم كان ظل الجديد.

16 - ماذا ينتج من أن نظام الخلاص هو هو في جميع الأزمنة، مع اختلاف صورته الخارجية؟

* ينتج أن شعب الله قبْلَ المسيح كانوا شعب كنيسة الله، التي هي واحدة في كل نظام، وأنه كان لتلك الكنيسة (كما للكنيسة في الوقت الحاضر) وعدٌ واحد وفادٍ واحد وشرط واحد للاشتراك فيها، وهو الإيمان. على أن موضوع ذلك الإيمان قد اتّضح أكثر فأكثر مع مرور الزمان. وينتج أيضاً أن خلاصهم كان تاماً، وأنه قد غُفرت خطاياهم وتقدسوا وصاروا عند الموت إلى تلك الحال التي يصير إليها الآن جميع الذين ماتوا ويموتون على الإيمان المسيحي، كما هو مؤيد من تعاليم المسيح والرسل. فلا نقول إن شعب العهد القديم لم يخلصوا إلا بعد مجيء المسيح، لأن الخلاص الذي هو لنا كان لهم.

ولا يمكننا الجزم بدرجة معرفة المؤمنين القدماء بالحقائق والتعاليم المستورة في رموز العهد القديم. والأمر مؤكد أنه لم يُطلب من المؤمن إدراك كل ما أُشير إليه في الرموز، ولا كان ذلك ضرورياً له ليستفيد من ممارستها. ولكن كان عليه أن يقبلها على أنها معيّنة من الله، وأن يمارسها بالتواضع والاتكال على رحمة الله ليجعلها مفيدةً في خلاصه. ولا شك أن إدراك الأمر الجوهري المشار إليه في الرموز كان ممكناً للتقي المتعلم من الروح القدس الذي يتأمل بتدقيق في الأمور الروحية. ولقد أدرك بعض الأتقياء في العهد القديم أكثر من غيرهم أسرار النظام الموسوي، غير أن ذلك كان من باب التقدم الشخصي في الأمور الروحية، ولم يكن أمراً لازماً ضرورياً للخلاص.

17 - كم عدد العصور التاريخية لعهد النعمة؟

* عددها أربعة: الأول العصر الآدمي، من آدم إلى إبراهيم. والثاني الأبوي، من إبراهيم رئيس الآباء إلى موسى. والثالث الموسوي، من موسى إلى المسيح. والرابع الإنجيلي، من مجيء المسيح إلى انقضاء العالم.

18 - ماذا يُقال في العصر الأول المسمَّى «الآدمي»؟

* هو الذي يمتد من آدم إلى إبراهيم، ولا أخبار عندنا عن هذه المدة إلا القليل حتى لا نقدر أن نجزم إلى أي حدٍ أُعلن الحق، ولا ما هي الوسائط التي استُعملت لحفظه. فكل ما نعرفه من أخبار تلك المدة هو أن الله قدم لأهلها الوعد بنسل المرأة، ورسم لهم العبادة بواسطة الذبائح. ونستدل أن المقصود بالذبائح تعليم كيفية الخلاص بثلاثة أمور:

(1) أنها تطابق وتوافق مطالب الضمير البشري، لأن حكم الضمير يؤدي إلى الاعتقاد أن الخاطئ يحتاج إلى الكفارة. والأرجح أن الله علّم الإنسان أن تلك الكفارة يجب أن تكون بسفك دم.

(2) سرور الله بها ووضعها كفريضة دينية وتضمينه إياها الفرائض الدينية التي أمر بها بعد ذلك.

(3) توقُّع خلاص البشر بواسطة ذبيحة المسيح. ولذلك يحق لنا أن نحسب أن الذبائح القديمة رُسمت قبل شريعة موسى للإشارة إلى طريق الخلاص بالمسيح، وأنها فُرضت لتعليم كيفية الخلاص.

19 - ماذا يُقال في العصر الثاني المسمّى «الأبوي»؟

* يمتد من إبراهيم إلى موسى، ويمتاز عن العصر السابق بثلاثة أمور:

(1) اختيار نسل إبراهيم ليكون شعب الله الخاص، فقد اختاره الله ليحفظ الديانة الحقيقية في أثناء ارتداد الجنس البشري العام. ولذلك أُعلنت لهم إعلانات خاصة، وقطع الله معهم عهداً ووعدهم أن يكون إلههم وهم يكونون شعبه.

(2) حصر الله وعد فدائه بمجيء المسيح من اليهود. لقد أدخل الله في كنيسته من كل شعوب العالم، وجعل أعضاءها شعباً خاصاً يتميّز بالختان عن الأمم الذين حولهم، إلا أنه أعلن أن الفادي يأتي من نسل إبراهيم فقط، ولو أن الخلاص الذي يصنعه يكون لجميع الأمم.

(3) إعلانه أخيراً أن المنقذ يأتي من سبط يهوذا.

20 - ماذا يُقال في العصر الثالث المسمّى «الموسوي»؟

* يمتد من موسى إلى المسيح. وكل ما اختص بالعصرين السابقين متضمَّن فيه، وأُضيف إليه كثير من الفرائض الطقسية كالكهنوت والذبائح وغيرها. وأُعلنت فيه مواعيد أكثر من الأول في أقوال الأنبياء عن الفادي الآتي وعمله، وإنه نبيّ شعبه وكاهنه وملكه. كما أُعلنت بأكثر إيضاح حقيقة الفداء الذي كان مزمعاً أن يصنعه، وماهية الملكوت الذي كان عازماً أن يقيمه. وصفات النظام الموسوي رمزية كما نستدل من أقوال العهد الجديد فيه.

21 - ماذا يُقال في العصر الرابع المسمّى «الإنجيلي»؟

* يمتد من مجيء المسيح إلى انقضاء العالم، ويُدعى «عهداً جديداً» بالنسبة إلى العهد الموسوي الذي كان قديماً أو عتيقاً. وهو زمن نظام ديني يمتاز عن القديم بخمسة أمور:

(1) إنه عام غير محصور في شعب واحد، بل هو لجميع الأمم ولكل البشر.

(2) إنه روحي أكثر من النظام القديم، ليس لأن رموز العهد القديم قد انتهت فقط، بل لأن العهد الجديد يطلب الديانة الداخلية الروحية أيضاً، ويترك المطالب الخارجية التي كانت في شريعة موسى. ثم أن تعاليم النظام الإنجيلي أوسع وأوضح من تعليم النظام الموسوي.

(3) إنه يوضح مبادئ الإنجيل أكثر من مبادئ الناموس.

(4) إنه بنوعٍ خاص نظام الروح القدس، لأن فيضان الروح القدس من خصائص النظام الإنجيلي. وقد وعد المسيح بإرسال «المعزي، روح الحق» ليسكن مع شعبه ويرشدهم إلى معرفة الحق، ويبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة (يو 16: 8). وقد تمّ ذلك الوعد فعلاً.

(5) إنه مستمر إلى النهاية، بينما كان نظام موسى مؤقّتاً واستعدادياً، بدليل أن المسيح لما أرسل تلاميذه ليكرزوا بالإنجيل وعدهم بموهبة الروح القدس، وأكد لهم أنه يكون معهم في ذلك العمل إلى انقضاء العالم (مت 28: 20). فهو النظام الأخير قبل رد كل شيء. وتحت هذا النظام سيتم كل عمل الفداء. وفي العهد القديم إشارات كثيرة إلى نظام آخر أفضل، كانت الفرائض الموسوية مجرد استعداد له. لكن لا توجد في الكتاب المقدس إشارة واحدة إلى أن النظام المسيحي سيُستبدل بنظامٍ جديد أفضل منه ليرجع الأمم إلى الله، لأنه متى بُشِّر الجميع بالإنجيل يأتي المنتهى.

الفصل التالي    الفصل السابق


علم اللاهوت النظامي

كتب أخرى

الرد على الإسلام