الفصل الثامن والعشرون

ضمير الإنسان وإرادته

1 - ما هي علاقات الإنسان بغيره من الكائنات؟

* الإنسان مخلوق عاقل، بينه وبين الخالق وسائر المخلوقات علاقات مختلفة وله مقام خاص في كلٍ منها. ومن ذلك:

(1) علاقته بالخالق لأنه مخلوق محدود غير مستقل، لا يستغني عن الله أبداً لأجل الحياة والحفظ وجميع لوازمه (تك 1: 26 وأع 17: 28 ورؤ 4: 11). وهو محدود زماناً ومكاناً وقوةً. ولكن بما أنه مخلوق عاقل كانت علاقته بخالقه علاقة خاصة تميّزه عن سائر المخلوقات، لأن غايته العظمى أن يمجد الله ويتمتع به. وهو دائماً تحت حكم الله الأخلاقي وموضوع عنايته، فلا يخرج من دائرة تلك العناية ولا يتخلص من مسؤوليته لذلك الحكم الإلهي.

(2) علاقته بالطبيعة المادية، وهو فيها الرأس والتاج، فلا شيء فيها أعلى منه. وكل شيء مخلوق لأجله، وهو المتسلط على الكل، وله ما يميزه عنها بوجود النفس الناطقة. ولذلك له مقام بين المخلوقات الروحية والحيوانية والمادية، فإن الروحي والمادي يجتمعان فيه. وله حياة حيوانية أيضاً مادام في هذا العالم.

(3) علاقته بالبشر باعتباره واحداً منهم، فهو مسؤول في هذا المقام من جهات مختلفة باختلاف الأحوال، لأنه لا يقدر أن يعيش بين البشر عيشة انفرادية مكتفياً بذاته، لأنه مرتبط بهم في الحياة والموت، كما أنه لا يولد إلا منهم.

والإنسان في كل هذه العلاقات فاعل أخلاقي مخيَّر لأنه مرتبط برُبط أخلاقية بالجميع، ولا يمكنه أن يهمل الواجبات الأخلاقية التي عليه للخالق والمخلوقات.

2 - بماذا تقوم الصفة الجوهرية في الإنسان التي بها يُعتبر فاعلاً أخلاقياً؟

* تقوم بأنه عاقل مُدرِك مستقل مخيَّر، ذو شخصية، يقدر أن يعبر عن نفسه بقوله «أنا» وعن غيره بقوله «أنت» أو «هو» ويتصرف بذاته ويعرف ذاته بالشعور. وهو يتميّز بذلك عن البهائم، ويقدر أن يميز المسائل الأخلاقية، ويقترب إلى الله ويخاطبه في الصلاة ويعاشره روحياً في هذا الزمان وإلى الأبد. ومن خواص تلك الشخصية الشعور الذي به يتحقق الإنسان أنه موجود، وأنه يعمل باختياره، وأن له مقاماً بين الخلائق العاقلة وما أشبه ذلك من الاختبار الباطني. ومن خواصها أيضاً بقاء هُويته أي أنه هو هو من ساعة إلى ساعة ومن يوم إلى يوم ومن سنة إلى سنة، فإن أحواله تتغير ولكن شخصيته أو ذاته تبقى بدون تغيير، ومعرفته بذلك تحيط بالنفس كما بالجسد. ومن خواص شخصيته أيضاً أنه مستقل باعتبار أنه فاعل أخلاقي، فهو أصل أفكاره ومقاصده. وكل إنسان بمنزلة نبعٍ أصلي لأفكاره وأعماله، أي أنه علة روحية في ذاته لأن الله هكذا خلقه ووضعه في هذا المقام الرفيع. ومع أن الإنسان قابل للنصح والتأثُّر من خارج، غير أن ذلك لا يبطل اختياره ولا يسلب منه استقلاله في العمل.

وكما أن للإنسان شعوراً يعلم به أحواله الباطنة، له أيضاً حواس جسدية يدرك بها ما في الخارج. فله وسيلتان عظيمتان للحصول على المعرفة وهما الشعور والحواس، فيشعر ويحقق بالشعور ما في نفسه، وبالحواس ما في الخارج.

3 - كيف يجب أن ننظر إلى نفس الإنسان باعتبارها ذات قُوى مختلفة؟

* يجب دائماً أن نعتبر النفس جوهراً روحياً ذا قوى مختلفة رفيعة. ولا يجوز أن نعتبرها مركبة من أجزاء، كل جزء قوةً من قُواها، وهي ذاتها في وحدتها صاحبة تلك القوى بجملتها. وتنقسم قواها إلى أقسام كبرى، تنقسم بدورها إلى أقسام صغرى. غير أن النفس هي هي، وهي مصدر كل قواها ومالكتها ومتسلطة عليها. ولا يجوز أن نحسب إحدى قواها فاعلةً من تلقاء نفسها بشيء من الاستقلال عن جوهر النفس، بل يجب أن نعتبر النفس عاملةً بحسب قُواها المختلفة، وأن العلاقة بين قواها شديدة، وهي أن بعضها يؤثر في بعض. فلا يصح مثلاً أن نقول إن العقل يفتكر والقلب يشعر والإرادة تختار والضمير يحكم، كأنها أعضاء مختلفة للنفس. بل يجب أن ننسب هذه الأعمال المتنوعة إلى النفس الواحدة التي هي ذات عقل وشعور وإرادة وضمير. ولذلك هي مسؤولة بكل أعمال قواها.

4 - ما عدد أقسام قُوى النفس الإنسانية؟

* قسمان، قوى ظاهرة وقوى باطنة. فالظاهرة هي الحواس الخمس من سمعٍ وبصر وشم وذوق ولمس، وبها يدرك الإنسان ما في الخارج من ضوء ولون وجسمٍ وحركة وغيرها، وبها يعرف في الذهن أو في الباطن ما يتعلق بالأمور الخارجية. والقوى الباطنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبرى، هي العقل والحواس الباطنة والإرادة. فبالعقل يعرف الإنسان ويميز ويتصرف في المعرفة على سبيل الاستنتاج والحكم والقياس المنطقي ويحكم بالبداهة. وبالحواس الباطنة يشعر ويرغب ويتأثر بالمؤثرات المتنوعة، وبها تقوم العلاقات بينه وبين كل ما يحبه أو يبغضه. وبالإرادة يختار ويقصد ويسعى في العمل بحسب ما يختار. ولكل إنسان فوق ما ذُكر ضمير وذوق عقلي. فالضمير قوة مشتركة بين العقل والحواس الباطنة للنظر في المسائل الأخلاقية والحكم فيها، وله كذلك علاقة بالإرادة، فيُلزمها بالواجب أو يمنعها عن الخطأ. والذوق العقلي قوة مشتركة بين العقل وتلك الحواس نميز بها حُسن الأشياء أو قُبحها، فنُسر بالحسَن ونتألم بالقبيح.

5 - ما هو الضمير؟

* الضمير قوة في الإنسان تقدّره على التمييز والحكم في الأخلاقيات، فيحكم في الأمور من جهة الخير والشر. وليتمّم الضمير وظيفته يستخدم العقل والحواس الباطنة والإرادة جميعاً، كلاً منها في عمله الخاص. فالعقل يميز ويدرك، والحواس الباطنة تشعر وتتحرك بالانفعالات القلبية، والإرادة تنفذ وفقاً لحكم الضمير. والضمير بعد حكمه في مسألة أخلاقية بواسطة العقل والحواس الباطنة، يحثّ الإرادة. وله عمل آخر، وهو أن يمدح أو يستنكر بموجب حكمه في المسألة. فالضمير قوة أخلاقية خاصة في النفس، لكنها لا تتصرف مستقلةً عن العقل والحواس الباطنة والإرادة، لأن الضمير يعمل بواسطة قوى النفس المختلفة للحكم في الخير والشر، وله سلطان على إرادة الإنسان (وإن لم ينتبه الإنسان كما يجب) فيسوقه ليعمل ما يجب ويترك ما لا يجوز. وتتم وظيفته بالمدح والذم بحسب نوع العمل. وسلطان الضمير أصلي أخذه من الله ولا بد من الضمير في الإنسان ليجعله فاعلاً أخلاقياً مسؤولاً في ما يختص بالأخلاقيات. فالضمير يحثّنا على الصلاة، ويبعدنا عن الشر، وله سلطان فائق في النفس ليُجبر الإرادة على عمل الواجب وترك الخطأ. وإذا سلمنا إلى سلطان الضمير وسمعنا صوته حرَّك فينا انفعالات الفرح. وإن عصيناه حرّك فينا انفعالات الغم والحزن. فللضمير يد عظيمة في سعادتنا أو شقائنا، وأشد آلام النفس تكون أحياناً من توبيخات الضمير بعد ارتكاب الخطية.

6 - ما هي الأدلة على وجود الضمير؟

* (1) لزومه ليكون الإنسان فاعلاً أخلاقياً مسؤولاً كما هو.

(2) شهادة عموم البشر من الاختبار أنه فيهم.

(3) شهادة الكتاب المقدس. فقد أشار العهد القديم إلى الضمير بكلمة «قلب» وأطلق عليه العهد الجديد كلمة «ضمير» (رو 2: 15 و13: 5 و1كو 8: 7-12 و2كو 1: 12 و4: 2 و5: 11 و1تي 1: 5، 19 و3: 9 وتي 1: 15 وعب 9: 14 و10: 22 و13: 18 و1بط 2: 19 و3: 16) ويظهر من هذه الآيات أن الضمير أصليٌّ في الإنسان، ووظيفته الحكم في الأمور الأخلاقية. على أنه قد يُصاب أحياناً بالضعف والظلمة والتشويش، فيصير إلى حالةٍ تغشنا، وذلك إن أهملنا طاعته، أو إن أدخلنا فيه مبادئ فاسدة.

7 - ما هي حالة الضمير في الإنسان بعد السقوط؟

* قام الضمير في الإنسان قبل السقوط بكل ما يختص بوظيفته بغاية الكمال والقوة، لأن كل قوى النفس البشرية كانت حينئذ في حالة القداسة التامة، المناسبة لخدمة الضمير في تتميم وظيفته. ولو بقي الإنسان في حالته الأصلية لكان الضمير يتمم وظيفته بكل سهولة وبأفضل طريقة. ولربما استُغني به عن الوحي. لكن الإنسان خالف ضميره وسقط بمعصيته الأولى في هاوية الظلمة والجهالة والضعف والفساد. فبقي قوة من قُوى النفس، لكنه صار ضمير إنسانٍ ساقط فاسد. ويستخدم الضمير الآن قُوى نفسٍ ساقطة للقيام بعمله، فيصعب عليه القيام بوظيفته بكمال، وأصبح قابلاً للاعوجاج والوصول إلى حال الموت. فالسقوط لم ينزع الضمير من الإنسان بل أفسد القوى التي يستعملها الضمير ليتمم أهدافه، ولذلك انحطت قدرة الضمير في تمييز الأمور الأخلاقية والحكم فيها. غير أنه لا يزال يحكم بالصواب في كل المسائل الأخلاقية البسيطة، في ما هو خير أو شر. لكن تأثيره وقوته ضعُفا، وخفتت توبيخاته. وأما سلطانه فباقٍ إلى حدٍ لا يقدر الإنسان عنده أن يقاومه دون أن يقع تحت اللوم والتوبيخ. ولذلك كان الضمير بعد السقوط محتاجاً إلى إرشاد الوحي وتنوير الروح القدس في أكثر الأمور الدينية، ولاسيما في كل ما يختص بطريق الخلاص. ولا شك أن الضمير المهذب بمعرفة الإنجيل يكون مرشداً صالحاً. ويُقال أحياناً إن الضمير مستنير أو مظلم، ويُراد بذلك أن معرفة الإنسان في الأمور الروحية جليّة أو مبهَمة. ويقال إن الضمير قاسٍ أو لين أو سريع التأثُّر، بمعنى أن صاحبه في الأمور الأخلاقية قاسٍ لا يشعر، أو لين سريع الشعور والحس. وعلى هذا الأسلوب يقال ضمير ميت أو حي.

8 - ما هي أهم المسائل التي تتعلق بالضمير وعمله في الإنسان؟

* طالما شغلت الأمور المتعلّقة بالضمير عقول الناس وأنتجت بحوثاً، منها:

(1) هل يحدث أن يرشدنا الضمير إلى غير الصواب؟ فنقول: لا يخلو إنسان من الضمير، لكنه انحط بالسقوط، فسقطت أحكامه من درجة الكمال وضعفت قدرته حتى لا يحسن أن نعتمد عليه إلا في الحكم بما هو خير أو بما هو شر في أبسط الأمور الأخلاقية، فلا يقدر إنسان أن يتكل عليه لإثبات أحكامه بقوة فعالة وتأثير شديد إلا إذا أُنير بنور الوحي وتأثر من النعمة الإلهية واسترشد من الروح القدس. ولما كان إدراك التمييز بين الخير والشر يجعل الإنسان مسؤولاً، فمجرد وجود الضمير في الإنسان يضعه تحت مسؤولية أخلاقية، لأن ضميره وإن كان قاصراً عن الحكم في مشكلات الأمور الأخلاقية السامية، لا يخطئ في الحكم على الأمور البسيطة. فينبغي أن نميّز بين الأمور الأخلاقية البسيطة والأمور العويصة المعقدة. ففي البسيطة يرشدنا الضمير بالصواب، وأما في المعقّدة فليس من وظيفته أن يعلّمنا الفلسفة الأخلاقية إلا بإعانة الوحي وإرشاد الروح القدس، لأن غايته ليست أن يجعل الإنسان فيلسوفاً في الأمور الأخلاقية، أو يقوم مقام الوحي ويعلمه الحقائق الإلهية ويبين له واجباته الدينية بالتفصيل. ومن أمثلة الأمور البسيطة: هل يجوز الكذب والسرقة أو الظلم؟ وهل يجوز مثلاً أن بحّاراً يتفق مع إنسان أن يوصّله بمركبه إلى الجانب الآخر من البحر بكذا من الدراهم، وعلى صفحة الماء يُلزم الراكب بعنفٍ أن يدفع ضعف ما اتفق عليه؟ وهل يجوز اتهام إنسان بجرم كذباً والشهادة عليه زوراً لغايات رديئة؟ فلا شك أن ضمير كل إنسان يحكم بالصواب في أمور أخلاقية بسيطة كهذه. ولكن إن كانت المسائل غير بسيطة، فربما اختلف حكم الضمير فيها لاختلاف أحكام العقل الفاسد المظلم. على أن صاحب الضمير المدرّب إنجيلياً لا يتردد في الحكم فيها، لأن عقله استنار بإرشاد الحق. ومن أمثلة تلك المسائل: هل يجوز أن تعطي سُلفةً بالربا الزائد لإنسان ضاقت حاله إذا قبل المديون ذلك؟ وهل يجوز أن نعطي أملاكنا قيمةً أقل لنخفف الضرائب المستحقَّة علينا؟ وهل يجوز إذا صرفنا جانباً من يوم الأحد بحضور الصلاة والقيام بواجباتنا الدينية أن نصرف بقية اليوم في الأشغال الدنيوية أو في اللذات الجسدية الخالية من كل فائدة دينية؟ وهل يجوز أن نمارس عملاً يضر صحة الآخرين، بإفساد البيئة لو أن في ذلك فائدة شخصية لنا؟ ومن المسائل الدينية التي يمكن الاختلاف فيها: هل يجوز اضطهاد من يخالفنا في عقائده الدينية كما فعل بولس قبل اهتدائه؟ فهذه المسائل وغيرها لا يحلها الضمير إلا بعد استنارة عقله بالوحي وإرشاده بالتعليم الإلهي. ولم يترك الله مثل هذه الأمور لحكم الضمير، بل جعلها من تعليم الوحي المقدس. غير أن كثيرين حاولوا حلها بالضمير، وكان الأفضل أن يسترشدوا بالوحي. وضمير كل إنسان قابل للتعليم في كل الأمور الأخلاقية والدينية، إلى أن يصير بإرشاد الحق الإلهي مرشداً أميناً في كل ما يختص بالأخلاق والدين.

(2) لماذا تختلف ضمائر البشر في أحكامها في ما يختص بالدين والأخلاقيات، مع أن الله هو الذي أعطى كل إنسان ضميره؟ والجواب: لا تختلف ضمائر الناس في الأمور البسيطة في الخير والشر، وإنما تختلف في الأمور الأخلاقية الفلسفية والدينية التعليمية التي يحتاج الإنسان إلى إرشاد الحق ليفهمها، لأن الضمير إما مستنير أو مظلم، متعلم من الله أو جاهل، سريع الشعور أو بطيء، صحيح النظر أو أعمى. فالضمير المظلم الجاهل، البطيء الشعور، الأعمى، لا يقدر أن يحل إلا أبسط القضايا، وفي غيرها يحتاج إلى الاستنارة والإرشاد والتعليم من إعلانات الله في الأمور الروحية. ومتى عرف الضمير ما هو واجب ومطلوب حكم بدون تأخر وأوجب على الإنسان الفعل المطلوب.

فإذا جمعنا أناساً من الصين والهند وأفريقيا وأوروبا وأمريكا وسألناهم: ما قولكم في الذي يقتل من انتشله من الغرق؟ أو ما قولكم في قصاص بريء وإطلاق ظالم؟ أو ما قولكم في أن ينفق الإنسان على نفسه ونفعه الشخصي مالاً استُؤمن عليه لمساعدة الفقراء؟ أو ما قولكم في البيع بميزان الغش؟.. فالإجابة لن تختلف بين وثني جاهل أو لاهوتي عالم، فالحرام في هذه المسائل وأمثالها لا يحتاج فيه الضمير إلى إرشاد الوحي لأن الضمير فيها شرعٌ لنفسه. ولكن إذا وجَّهنا لنفس هذه الجماعة أسئلة فلسفية دينية لاهوتية، فربما لا يتفق اثنان منهم في حكم واحد، وسبب هذا الاختلاف أن ضمير كل واحد ينظر إلى المسالة من موقعه الخاص وبنور معرفته وتربيته الخاصة، لأن ضميره لا يقدر في المسائل الدينية الروحية أن يميز الحق من الباطل إلا بنور التعليم الإلهي والوحي. على أن ضمير كل إنسان ولو كان وثنياً، متى استنار وميز الحق من الباطل، صار تحت المسؤولية. ولو أننا لا ننتظر مثلاً أن مجرد الضمير يرشدنا إلى عقيدة الثالوث الأقدس أو إلى كفارة المسيح أو إلى أن الخلاص بالإيمان. لكن إذا عرف إنسان صحة هذه الحقائق طلب ضميره قبولها والإيمان بها. فليس الضمير معلِّماً يعلّمنا الدين وعلم اللاهوت، ولكنه نائب عن الله يحثنا على قبول الحق والتسليم به والعمل بموجبه عند معرفتنا إياه. ولا يحكم في صحة تعليم من التعاليم المعلَنة أو عدم صحته، وإنما له أن يحكم بموجب الاعتقاد أنه من الله وقبوله والعمل بموجبه حالما يعرف أنه في الأسفار المنزلة.

(3) إذا أخطأ إنسان، هل يتبرر بدعوى أن ضميره حثَّه على العمل أو لم يوبخه عليه؟ الجواب: لا، لأننا لا نتبرر من الخطية ولو حكم الضمير بجواز ارتكابها. والضمير لا يغشنا في ما يتعلق بالخير والشر، والذين ادّعوا ذلك خدعوا أنفسهم وأقاموا مصالحهم الذاتية أو أهواءهم الشريرة مقام الضمير، أو ربما حاولوا حل المشاكل الدينية الدقيقة بنور أذهانهم عوضاً عن نور الوحي. فالذي يقيم الضمير مقام الوحي يعرّضه للخطأ من أوجه مختلفة. فالضمير لا يبررنا إذا ارتكبنا خطية، ولا نقدر أن نتبرر بدعوى إرشاده، لأن ضمير كل إنسان (وإن سقط بسقوطه) لم يتعطل تعطيلاً يمنعه من إرشاده في واجباته البسيطة من نحو الله والبشر. وقد أعطانا الله أيضاً إعلاناته الإلهية لينير ضمائرنا ويدربها للأفضل. وقد حدث الخطأ أحياناً كثيرة ليس من حكم الضمير، بل من اختيار وسائط غير مناسبة للغاية المقصودة، أو من استعمال طريقة غير لائقة لإتمام ما هو حق وصواب في ذاته. فإذا طلب إنسان مجد الله بضمير صالح وبمبدأ صحيح، ولكن أخذ يمجده بطريقة تخالف ذلك المبدأ وتلك الغاية، فالخطأ ليس في حكم الضمير، بل في كيفية تنفيذ توصيات الضمير. لأن الضمير وإن حكم بالصواب في فضل مشروعٍ ما، فهو لا يعطي الإنسان فطنة وحكمة لاختيار الوسائط المناسبة أو الطريقة الفضلى لإتمام ذلك المشروع. مثلاً: أراد الطرسوسي أن يمجد الله فأخذ يقتل المسيحيين، وفعل ذلك بضمير راضٍ. ولكن بعد استنارة قلبه اعترف بخطئه. وفي اختبار كل مسيحي مؤمن ما يشبه ذلك، لأنه بعد إنارة ضميره يلوم نفسه على ما كان يعمل قبلاً بدون شعور باللوم. أما الذين لم يمكنهم الحصول على إعلان الله فلا يُدانون لأنهم لم يراعوا الإعلان الإلهي، بل يُدانون لأنهم خالفوا أحكام ضمائرهم ولم يتصرفوا بموجب ما لهم من المعرفة.

ويجب أن نميز بين حكم الضمير والاعتقاد، لأن الضمير قوة أعطاها الله لنا، أما الاعتقاد فهو ما حصلنا عليه من دراستنا أو تعلمناه من غيرنا. فالاعتقاد هو من أعمال العقل الناقص. فإذا كان مصدر الاعتقاد من الوحي صدَّقه الضمير ووافقه، ولكن إذا كان من مصدر فاسد لم يصدقه الضمير بعد إنارته كما سبق الكلام عن بولس.

(4) هل يصحّ أن نقول إن الضمير ليس أصلياً في الإنسان، فننسبه للتربية والتعليم؟ الجواب: لا، لأن الضمير هبة من عند الله وليس مكتسَباً من التربية. غير أن للتربية تأثيراً إما في تقويمه وإحيائه أو في تعويجه وإماتته. ومما يبرهن أن الضمير غير التربية: (أ) كثيراً ما يخالف الضميرُ التربيةَ وقد يرفضها، وبذلك يتميز ويستقل عنها. (ب) لا يتلاشى الضمير بالتربية في المسائل الأخلاقية البسيطة مهما كانت تلك التربية. نعم إنه يصدّق أحياناً أباطيل وخرافات، ولكن لا تقدر التربية مهما طالت مدتها أن تجعله يصدق أن الخير شر وأن الشر خير. (ج) لو لم يكن الضمير في بنية الإنسان الأصلية لما قدرت التربية أن تعلِّمه التمييز بين الخير والشر، فإن الحيوانات لا تقبل هذا التعليم مهما توفَّر لها من التربية. وكما أن المولود أعمى لا يقدر أن يميّز الألوان والأصم يعجز عن تمييز الأصوات، كذلك لو وُلِد إنسان بدون ضمير ما أمكنه أن يميز بين الخير والشر، لأنه لا يملك القوة الأصلية التي تقدّره على ذلك. وهذا غير وارد.

(5) هل يتلاشى الضمير؟ والجواب: لا، بل يدوم إلى الأبد. نعم ربما يضعف أو يسكت أو يتقسى، لكنه أبداً لا يموت، ولا بد أن يقوم ويعمل عمله ويحتل مقامه ويصير العامل العظيم في توبيخ الخاطئ وتعذيبه في حال الهلاك.

9 - ما هي واجباتنا نحو الضمير؟

* (1) أن نصغي إليه ونطيعه.

(2) أن نأتي به إلى كتاب الله لأجل إنارته وإرشاده.

(3) أن نخاطب ضمائر الغير ونبذل الجهد في إيقاظها وإقناعها بالحق، لأن ضمير كل واحد يكون له بركة أو عكس ذلك.

10 - ما هو المصدر الأصلي للمبادئ الأخلاقية التي كلَّفنا الله بحفظها؟

* مصدرها الأسمى هو مشيئة الله التي تُلزِم أحكامُها ومطالبها كلَّ مخلوق عاقل بالطاعة والتسليم لها، لأن كل ما يطابق إرادة الله صواب واجب الحفظ، وكل ما لا يوافقها خطأ واجب الترك.

فإذا قيل: كيف نعرف مطالب تلك المشيئة؟ قلنا: لنا ثلاث طرق لذلك: (أ) الأسفار المنزلة بالوحي، و(ب) طبيعة الإنسان الأخلاقية، و(ج) شهادة الخليقة المنظورة. والأسفار هي الأوضح والأصح. فإذا قيل: ما هي واسطة تحقيق الصواب ومعرفة الحق في الأخلاقيات؟ قلنا: هي أن نمتحن الأمور الأخلاقية ونعرف حقيقتها أولاً بواسطة تعليم الوحي، وثانياً بواسطة أحكام البشر العامة الضرورية البديهية، لأننا إذا وجدنا مبدأً من مبادئ الأخلاق أو قانوناً من قوانينها يوافق تعاليم الكتاب المقدس، ويصدقه عموم البشر بالبداهة، تحققنا أن ذلك المبدأ أو القانون صوابٌ واجب الاعتبار لأنه يطابق مشيئته.

11- لماذا يُنسب تكليف المخلوق العاقل في الأمور الأخلاقية إلى مشيئة الله وسلطانه الأعظم؟

* لأنه هو الخالق القدوس، وليس أعلى ولا أقدس منه. ولأن مشيئته تعبّر عن قداسته وحكمته وعدله كما هي فيه إلى درجة الكمال، فما تطلبه حكمة الله وعدله وصلاحه وقداسته واجب علينا، لأنه مطلوب إلهٍ له هذه الصفات الرفيعة. ولا يوجد أساس أفضل وأضبط من هذا الأساس نبني عليه التكليف الأخلاقي.

12 - ما هي الإرادة؟

* الإرادة قوةٌ بها يختار الإنسان عمل أمرٍ أو تركه، لأن الإنسان يعرف بالعقل ويدرك، ويشعر بالحس الباطن برغبة في أمرٍ ما لأنه يراه حسناً أو بكراهته لأنه يراه قبيحاً، وبواسطة الضمير يحكم بالوجوب أو الجواز أو المنع. ولكنه يختار بالإرادة وحدها، فالإرادة تقدر أن تختار، وبعد الاختيار تستخدم كل قوى الإنسان لتتمم العمل المختار أو لتجري ما قصدت إجراءه. فللإرادة عملان مهمان متميّزان، وهما: (أ) الاختيار و(ب) السعي بحسب الاختيار. فهي ذات شأنٍ عظيم بين قُوى الإنسان، لأنه بها يُظهر نفسه ويبين صفاته وينزل منزلته الخاصة في مراتب الأخلاق والعمل، ويوجب على نفسه التكليف والمسؤولية، ويعيّن مقامه بين البشر ونصيبه عند الله.

13 - ما هي علاقة الإرادة بغيرها من قُوى الإنسان؟

* الإرادة هي القوة التي بها يعمل الإنسان بموجب أحكام عقله وأشواق قلبه وحث ضميره، فهي غير مستقلة عن بقية القوى البشرية بل خادمة لها لتتمم مقاصد الإنسان وميوله. غير أن تلك الخدمة اختيارية لا تستعبد الإرادة، وهي تختار وتعمل دائماً ما يوافق الدافع الذي يَقوَى حينئذ على كل ما سواه في نفس الإنسان. فقد تختار الخير وقد تختار الشر، ولكنك لا تختار الخير إذا كان الدافع للشر أقوى تأثيراً، ولا تختار الشر إذا كان الدافع للخير أقوى. والدافع هو ما نسمّيه أيضاً «الباعث» أو «الموجِب» وهو كل ما يحثّ الإنسان على أمر أو يرغّبه فيه، سواءٌ كان من الأمور الظاهرة أم الباطنة. لكن ينبغي النظر في معنى كلمة «الدافع» لأنها تُستعمل لكل ما يؤثر في الإنسان من خارج، ولكل ما يحثّه من داخل، كالاقتناع والميول والأشواق والمبادئ الأخلاقية. ولا يصح القول إن الإرادة تختار دائماً بحسب الدافع الأقوى إذا اعتبرنا ذلك يشير إلى الدافع الخارجي فقط بغضّ النظر عن الدافع الداخلي، فالدافع الخارجي مهما كان قوياً لا يؤثر في قلب الإنسان أحياناً لأن الإنسان لا يحترمه كما يجب، وكثيراً ما يختار الإنسان بموجب دافع خارجي قليل الاعتبار لسبب استعدادٍ داخلي فيه تأثَّر منه. ولكن إذا اعتبرنا الدافع الداخلي رأينا أن الاختيار يوافق دائماً الدافع الباطن الأقوى والأعظم. فالاختيار يوافق دائماً ما هو غالب في الإنسان من الميول والأهواء والمبادئ. والإرادة لا تخالف الإنسان ذاته في اختيارها، وهي توافق دائماً الدافع الذي تراه النفس أنسب وأقوى. ولا نعني بذلك أن النفس تختار دائماً ما هو أفضل وأنسب، بل تختار ما يقوَى عليها سواءٌ كان خيراً أم شراً. فإن قيل إن هذا التعليم يعني أن الإنسان مسيّر لا مخيّر، قلنا : بل ذلك يثبّت اختيار الإنسان، لأنه دليل على أنه هو الذي يختار. فإذا رأى الخير أفضل ورغب فيه أكثر اختاره، وإذا رأى الشر أفضل ورغب فيه كذلك اختاره. وليس للإرادة قدرة على الميول الغالبة والأهواء الفائقة في النفس بل توافقها دائماً. والإنسان لا يزال مخيّراً وإن لم تستطع إرادته أن تخالف الأشواق المتسلطة في نفسه، فهو غير مجبَر بقوة خارج نفسه، بل هو مخيّرٌ حرٌ، لأن تلك الميول والأشواق ليست موضوعةً إجباراً في النفس، بل هي استحسان النفس واختيارها، وتتوقّف على قبول الإرادة وتَبنّيها لها. فالإنسان وإن وُلد خاطئاً لا يُجبَر على الخطية، بل قد اختار البقاء فيها منذ بلوغه سن المسؤولية، وقد سلَّم ذاته لسلطانها. فالدافع الأقوى يوافق الإرادة لأنه تحت سلطتها، شريرةً كانت أم صالحةً، كما توافقه الإرادة أيضاً. فصارت الموافقة متبادلة وخالية في الحالتين من كل إجبار. والدوافع (سواءٌ كانت خارجية أم باطنية) لا تُلزم الإرادة بقوة جسدية إجبارية، بل تحثّ الإنسان وتؤثر فيه، وهو يسلّم ويعمل بطريقة لا تلاشي مسؤوليته ولا تعطل حريته، فهو يعمل كما يستحسن ويريد. ويعتبر الكتاب الإنسان الساقط دائماً تحت عبودية الخطية، ولكنه مع ذلك يحسبه مختاراً حراً لأنه ليس مُجبَراً من الخارج بل عاملاً بموجب أهوائه وميوله . والإنسان وإن كان عبداً لنفسه لم يزل حراً، لأنه ليس عبداً لغيره.

وينبغي أن نميز بين حرية الإرادة وحرية الإنسان، لأنه إذا قيل إن الإرادة مستعبَدة للخطية ربما يُستنتَج من ذلك أن الإنسان عبد بمعنى أنه غير مختار ولا حر. فقولنا إن الإرادة مستعبَدة للخطية يعني أن الإرادة مستعبَدة لإنسان خاطئ. ولكن لا نعني بذلك أن الإنسان الخاطئ هو عبد، لأنه حرٌّ في خطيته، لا يجبره شيء من خارج نفسه، وهو يعمل كل شيء كما يريد. فيجوز القول إن الإرادة مستعبَدة في فاعل حر! فكثيراً ما تستولي العادات الرديئة على إرادة الإنسان حتى لا يقدر أن يقاومها أو يتحرر منها، ومع ذلك فالإنسان فاعل مختار ومسؤول أمام شريعة الله، ولو كانت إرادته مستعبدة لطبيعته الساقطة، لأن حريته لا تتوقف على استقلال إرادته عن كل ما سواها من قُوى النفس وميولها.

14 - ما معنى أن الإنسان فاعل مختار؟

* (1) معناه أنه يقدر أن ينشئ الأفعال بنفسه خلافاً للمادة، التي ليست سوى آلة بيد الصانع.

(2) مع اضطرار الإنسان أحياناً إلى إنشاء ما لا يرغب فيه، لخوفٍ أو حيرة، لا يمكن حمله على أن يريد شيئاً لا يرغب من نفسه فيه.

(3) وهب الله الإنسان عقلاً يبحث في المسائل ليدرك حقائقها، ووهبه ضميراً يميّز بين الخير والشر لتكون رغباته صائبة توافق العقل. نعم إنها ليست كذلك على الدوام لأنها كثيراً ما توافق أخلاق صاحبها العادية وطباعه الراسخة فيه، أي أنها تنشأ في نور العقل والضمير سواء وافقتهما أو لا.

وينبغي أن نميّز بين الاختيار (أي حرية الإرادة) والقدرة، لأنه إذا قلنا عن إنسان إنه فاعل مختار لا نعني بذلك أنه يقدر على عمل الصلاح، بل يقدر أن يعمل ما يريد عمله بدون حاجز أو معارض من خارج يجبره بخلاف ما يريد. فالإنسان بعد السقوط فاعل مختار وإن خسر قدرته على عمل الصلاح، لأن القدرة على اختيار الخير أو القداسة والعمل بموجبهما ليست ضرورية لتجعل الإنسان فاعلاً مختاراً أمام شريعة الله، لأنه لو كان للإنسان القدرة لكان مثل آدم قبل سقوطه. ولكن يمكن فقد القدرة بدون الحرية. فكل إنسان يشعر أنه مخيّر، ومع ذلك يخطئ ولا يقدر أن يمنع نفسه عن الخطية، ولا أن يغيّر قلبه ليرغب في الصلاح. فهو مخيّر مثل الله والملائكة الأبرار والقديسين في السماء والشيطان والملائكة الأشرار، بمعنى أن الله والملائكة والقديسين في السماء لا يقدرون أن يخطئوا، كما أن الشياطين لا يقدرون أن يعملوا الصلاح. ولكن الجميع أحرار لأنهم يعملون بحسب ميولهم الغالبة. وهذا التمييز هام لنوفّق بين المذهب الصحيح في اختيار الإنسان والحقائق الواقعة الثابتة من أحكام البشر ومشاعرهم، فكل إنسان يُصدّق أنه فاعل مخيّر، وأنه بذلك مسؤول عن أعماله وصفاته، وغير قادر أن يغيّر حالته الأخلاقية بقوة إرادته. ولنوفّق بين تلك القضايا الثلاث (الاختيار والمسؤولية والعجز) ينبغي أن نميز بين الاختيار والقدَر، ونأتي بمذهب في حرية الإنسان لا يلاشي الاختيار والمسؤولية، ولا ينفي حقيقة العجز. فإذا قلنا إن الإنسان باعتبار عجزه غير مخيَّر نخالف شهادة الاختبار وتعاليم الوحي، وإذا قلنا إنه مخيَّر قادر على تغيير قلبه وعمل الصلاح خالفنا كذلك شهادة الاختبار وتعاليم الوحي، لأن كل إنسان يعرف أنه حر وأنه عاجز في الوقت نفسه عن التصرُّف بقداسة. لذلك نلتزم بالاعتقاد أن الاختيار هو الحرية في أي عمل يطابق رغباتنا وأهواءنا الطبيعية. والقدرة هي القوة على تغيير صفاتنا وجعل أنفسنا خلاف ما نحن أخلاقياً. فالكتاب المقدس والاختبار يثبتان حرية الاختيار وينفيان قدرة الإنسان الساقط. فإذا قلنا إن الإنسان فاعل مختار لا نعني أنه يقدر أن يعمل خلاف صفاته، بل نعني أنه يقدر أن يعمل ما يوافق ويطابق صفاته.

15 - ما هو المقصود بقولنا إن الإنسان حر الإرادة؟

* اشتهرت ثلاثة أقوال في اختيار الإنسان:

(1) الإنسان مجبر أو مضطر تُساق إرادته كآلة ميكانيكية، إما بأسباب طبيعية عاملة بموجب الشرائع المطلقة الحاكمة على المخلوقات المادية، أو بعوامل خارجية أخرى، أو بإرادة كائن آخر أقوى وأسمى منه يجبره على العمل والاختيار.

(2) الإنسان مخيّر الإرادة، تعمل إرادته مستقلة تماماً عن بقية قوى النفس، وتقدر أن تختار اختياراً مطلقاً مهما كانت ميول الإنسان وأهواؤه وخصاله. وهذا القول عكس السابق. وكلاهما متطرفان. والمقصود بالرأي الثاني أن الإرادة مستقلة عن بقية القوى، وتختار إما هذا أو ذاك، لا للميول وتأثير الدوافع، بل لمجرد اختيار الإنسان مستقلاً عن كل ميل أو محرّك، وكأن الإرادة قانون مطلق لنفسها، وكأنها علّة مجردة لاختيارها. وبموجب هذا المذهب ينبغي أن تكون الإرادة قادرة دائماً أن تختار عكس ما اختارته بالفعل، وإلا ما كانت حرة في اختيارها. ويخالف هذا الرأي المذهب الأول الذي يقول إن الإرادة مضطرة، ولكنه لا يستلزم أن تكون الإرادة مستقلة عن كل تأثير خارجي أو داخلي لتكون حرة، بل قد يمكن أن يفعل الله والعقل والإحساسات والضمير وميول الإنسان الراسخة ومحركات أخرى في الإرادة بطريقة تحثها على أحد الأمرين، ويكون الإنسان لا يزال حراً في اختياره.

(3) للإنسان عقل وحواس باطنة وضمير وفيه ميول وأخلاق، وتختار إرادته دائماً ما يوافق الميل الأقوى فيه مهما كان. فالاختيار على هذا غير مقصور على الإرادة بل هو من شأن الإنسان كله ويوافق صفاته وحالته الباطنة في ساعة الاختيار، فهو يختار ما يميل إليه ويرغب فيه تمام الرغبة. ويمكن أن يختلف الناس في ميولهم وأحوالهم الباطنة مع تشابه الأحوال الخارجية، فإذا أُصيب شخصان أحدهما صالح والآخر شرير بتجربة واحدة، فيميل الصالح إلى رفضها باختياره ويميل الشرير إلى التسليم بها. فهذا المذهب الثالث متوسط بين المذهبين الأول والثاني، ويخالف القول بالاضطرار من جهة والقول بالحرية المطلقة وعدم التأكيد من جهة أخرى. وهو يعلّم أن الإنسان مخيّر إذا عيَّن هو أعماله الاختيارية بدون معارضة من خارج تمنعه عن ذلك التعيين. على أن اختياره يوافق دائماً الآراء والإحساسات والأخلاق الراسخة الساكنة فيه والغالبة في تأثيرها، حتى يصير اختياره تعبيراً عن أخلاقياته وأحواله الباطنة وميوله الغالبة دائماً. غير أن هذه كلها لا تُلزِم الإرادة بل تحثها فقط. فالإرادة هي شروع الإنسان في الاختيار بموجب ما قد غلب فيه من الميول والأشواق والمبادئ والدوافع.

والصواب من هذه الأقوال الثلاثة هو الرأي الأخير، لأن الإرادة لا تختار غير ما يريد الإنسان، وهي تختار دائماً بموجب الدوافع التي هي أقوى تأثيراً في الإنسان وقت الاختيار، أي التي تظهر له فعالة أكثر من غيرها. ولا نعني بذلك أن الدوافع التي تستحق الاعتبار تقوى على الإنسان دائماً، لأن الدوافع الضعيفة البعيدة عن الصواب يمكن أن تقوى عليه أحياناً لسببٍ ما في نفسه يجعله مستعداً للتأثر بها.

ومن الأدلة على صحة القول الأخير ما يأتي:

(1) شهادة الاختبار الذي يشهد دائماً بأننا نختار ما يوافق الدافع الأقوى والأكثر فعالية فينا. ويُثبت الاختبار أن الإنسان الحر الإرادة مسؤول عما يختار أن يعمله، لأن كل إنسان يشعر بأنه مسؤول بما لم يُجبر عليه، فلا مسؤولية بلا اختيار.

(2) شهادة العقل، الذي يقول إن الاختيار لا يكون خلاف ما نريد أو خلاف الميول والدوافع التي لها الفعل الأقوى فينا، لأن ذلك يستلزم أن الإنسان يخالف نفسه، وهذا محال.

(3) شهادة طبيعتنا الأخلاقية، فإذا لم يصح هذا القول لم يكن الإنسان فاعلاً عاقلاً ولا فاعلاً أخلاقياً، بل تكون إرادته مستقلة عن طبيعته العقلية وعن طبيعته الأخلاقية أيضاً، مع أن عمل الإرادة لا ينفصل عن رغبة العقل والأخلاق. وإذا تحركت الإرادة مستقلة عن الدوافع المؤثرة في الإنسان لا تكون الإرادة أداة للنفس بل مستقلة عنها.

(4) شهادة طبيعة الله والملائكة والقديسين في المجد والطبيعة البشرية للمسيح، لأن الإرادة في كل منهم ثابتة في عمل القداسة بسبب ميولهم المقدسة. وأيضاً الشياطين والنفوس الهالكة والأشرار على الأرض الذين رفضهم الله لفظاعة خطاياهم واستخفافهم بنعمته، فهم ثابتون في شرّهم بسبب قوة الميول الشريرة فيهم، ومع ذلك فهم لم يزالوا أحراراً في شرهم، مثل القديسين في أنهم فعلوا ما فعلوه اختياراً.

(5) شهادة معرفة الله السابقة، فإن الله عارفٌ بأعمال الناس الاختيارية معرفة سابقة، وهو يعرف ميول البشر ودوافعهم وكيف يتصرفون باختيارهم في أحوال معلومة وبحسب دوافع معروفة عنده سابقاً. إلا أنه لا يلزم من هذا تقييد معرفة الله بتوقفها على مقدمات معلومة، كأن لا سبيل لله غير ذلك لمعرفة ما سيحدث، لأنه إله معرفة مطلقة وعلم بكل شيء منذ الأزل.

(6) شهادة عناية الله في حكمه الأخلاقي على البشر، لأن الله يعتني بإرادة البشر بواسطة التأثيرات الداخلية وتغيير القلب وحثّ الإنسان على عملٍ وتحذيره من آخر، وجذب ميوله إلى إرادته الصالحة. فلو كان الإنسان يقدر أن يخالف أقوى التأثيرات الداخلية فيه لقدر أن يعمل ما يخالف مقاصد الله فيه، ولكانت عناية الله بالبشر في غاية الضعف. ولا نعرف كيف يقدر الله أن يستجيب صلواتنا بأن يجعل غلبة النعمة أكيدة في قلوبنا، أو بالمدافعة عنا بتأثيره الغالب في قلوب الغير، وأصبحت سياسة العالم في سلطان البشر لا سلطان الله.

(7) شهادة المواعيد الإلهية والنبوات وقضاء الله، ولاسيما تعيينه البشر للخلاص وعنايته بكل شيءٍ. فلو لم تكن إرادة الإنسان تابعة للعناية بموجب التأثيرات والدواعي ودوافع الضمير وحثّ الإرادة، ما تحقق إتمام المواعيد والنبوات، وما نفَّذ الله مقاصده في الإنسان المختار بدون أن يزيل حرية اختياره. لكن قد تكون أعمال الإنسان المختار أكيدة الحدوث لأنها دائماً وفق صفاته وأحواله الباطنة. على أن ذلك التأكيد لا ينفي اختياره، لأنه يعمل بموجب إرادته. ولأن الله عالم بميول الإنسان وأخلاقه بسابق العلم في كل زمنٍ، ولأنه قادر أن يغير أخلاق الإنسان ويحرك فيه الميول اللازمة لذلك، وقد عرف أعمال الإنسان الاختيارية وتحقق حدوثها، مع بقاء الإنسان مريداً مختاراً.

فالقول الأخير من الأقوال الثلاثة التي ذكرناها هو المقبول عند أصحاب النظام الأغسطيني (أي الكلفيني) وهو كما قلنا المذهب الصحيح. غير أن أصحاب المذهبين البيلاجي والأرميني أنكروا هذا القول وتمسكوا بالقول إن الاختيار الصحيح يوجب أن يكون الإنسان قادراً أن يختار خلاف ما يريد، وأن يخالف نفسه في اختياره. ولكن هذا القول وإن صحَّ باعتبار أن الإرادة مجرد قوة تُستخدم في إجراء العمل المختار، فلا يصح باعتبار أن الإرادة مصدر الاختيار بحسب ميول الإنسان وأهوائه، لأنه يستخدم إرادته في اختياره وفق ميوله. والإرادة خاضعة للإنسان ليختار ما يميل إليه. غير أن ذلك لا يقتضي أن يكون الإنسان قادراً على مناقضة نفسه وتغيير ميوله، فيكون قادراً على عمل ما لا يريد ليكون مخيّراً، لأن اختياره يتوقف على أنه يقدر أن يختار بموجب استحسانه وتفضيله وترجيح ميوله لا غير.

16 - ما هو الدليل على أن حرية الإرادة لا تستلزم قدرة الإنسان على عمل ما يخالف أقوى الميول فيه؟

* تتوقف حرية الاختيار على قدرة الإنسان على ذلك وفق إرادته لا خلافها. وإرادة كل إنسان (بمعنى اختياره) تتوقَّف على ما فيه من الأهواء والميول والأخلاق. ولكن الإنسان لا يقدر أن يغيّر حاله الداخلي أو يجعل نفسه يستحسن خلاف استحسانه الحقيقي، فيختار عكس ما يريد أن يختار. فكل إنسان منذ السقوط مخيّر أن يخطئ بحسب هواه وميوله وأهواء قلبه، ولكنه عاجز عن الاستجابة السريعة لطاعة الله وإتمام مطالبه روحياً، لأن ذلك خلاف ميوله الطبيعية وعكس إرادته. فالإنسان مخيّر من جهة ومسيّر أو عبد للخطية من جهة أخرى. ولا تعود هذه العبودية لقوة خارجة عنه، إنما تعود لميوله الذاتية الناتجة عن اختياره. فإذا تخلّص من عبودية الخطية بنعمة الله وتجدد قلبه وتقدس، تغيّرت ميوله حتى يريد أن يطيع الله ويخدمه خدمة حبية، فيحصل على أفضل حرية في الكون، وهي حرية أولاد الله في خدمة الآب السماوي.

17 - كيف توضح أن الحرية التامة في الاختيار يمكن أن تقوم في الإنسان مع أن أعماله محققة الوقوع قبل أن يعملها؟

* يتضح مما يأتي:

(1) توافق أعمال الله والمسيح والقديسين الذين انتقلوا إلى المجد كل قداسة وطهارة دائماً. وهم مع ذلك مخيّرون تماماً.

(2) كل إنسان في الأرض بالتأكيد يخطئ، وهو مع ذلك مخيّر.

(3) يعرف الله منذ الأزل أعمال الناس الاختيارية، وأنها لا بد ستحدث. وبموجب تلك المعرفة أعلن للبشر نبوات مؤكدة الإتمام، ومواعيد لا بد تتحقق.

(4) يحقق فعل النعمة الإلهية في الإنسان لترجيعه إلى الله، ولكن مع هذا تبقى حرية الإنسان الذي يرجع لله بحريته كفاعلٍ مخيّر. فتجديد قلب الإنسان لا يلاشي اختياره، بل يجعل خلاصه محققاً بحسب مواعيد الله.

(5) كثيراً ما نتنبأ بأعمال بعض الناس إذا عرفنا صفاتهم وأحوالهم، حتى لو كنا بعيدين عنهم. فنحن نعلم مثلاً أن الإنسان الصالح لا تغلبه بعض الخطايا. وهذا المبدأ أساس ثقتنا بعضنا ببعض. وقولنا «محقق الوقوع» من جهة الأعمال الاختيارية لا يتضمن القول بالاضطرار، لأن تحقُّق الوقوع ليس من باب الاضطرار ولا يستلزم ذلك، فأعمال الله محققة أنها توافق القداسة دائماً، على أنه غير مضطر على الإطلاق.

18 - كيف يجب أن يتصرف الإنسان بالاختيار إذا تناقضت ميوله؟

* كثيراً ما تنشأ في نفس الإنسان أشواق شديدة متناقضة، فالأشد ميلاً منها إلى جهة واحدة يحدد الاختيار الذي يظهر من النتيجة لا من الميول الداخلية التي تحركه، وقد يكون بعضها مضطرماً جداً، كالميل الشديد إلى الانتقام، أو جامداً كالشعور بالواجبات. على أن الجامد قد يظهر أنه هو الأقوى لأنه يجذب الإرادة إليه. وهذا التنازع الداخلي بين المبادئ المتناقضة يسبّب الحروب الروحية في المؤمن. والإنسان حرّ الإرادة كيفما اختار، لأن الميل الأشد وإن جذب الإرادة لا يجبرها. فالإنسان يختار وفقاً لذلك الميل بموجب استحسانه ولو بين أشواق كثيرة متناقضة.

19 - هل لحرية الإرادة حدود، وما هي؟

* اختيار الإنسان محدودٌ من بعض الوجوه، لأن لا أحد مخيّر تماماً غير الله. فللإنسان قوى روحية محدودة، واختياره لا يتجاوز حدود قدرته الطبيعية الخلقية. وهو تحت سلطان شرائع طبيعية لا يمكنه أن يتجاوزها، كما أنه تحت حكم الله الأخلاقي محاط بالقضاء الإلهي وتأثير الروح القدس. وكل ذلك يحدد اختياره. غير أنه لم يزل حر الإرادة في كل هذه الأحوال، وفي هذا الإطار. ومنها عدم قدرته على اختيار شيء وضده في وقت واحد، وعدم قدرته على تغيير صفاته وميوله الباطنة، وعدم قدرته على اختيار ضد ما يستحسن ويريد، فربما يستحسن عملاً، ولكنه لأسباب أخرى يريد أن يعمل خلاف ذلك الاستحسان. وما غلب عليه من الاستحسان يحدد الاختيار. فاختياره محدودٌ من عدة أوجه، ولكن مع ذلك هو مخيّر حقيقة ومسؤول بذلك الاختيار، لأن تلك الحواجز لا تبطل اختياره أو تدفع عنه المسؤولية. ولكن إذا فقد عقله أو أُجبر من الخارج حتى لا يقدر أن يستعمل إرادته، بطُل اختياره.

فالإنسان فاعل مخيّر حر الإرادة ومسؤول للخالق، وسيعطي حساباً له على كل أعماله في الجسد.

الفصل التالي    الفصل السابق


علم اللاهوت النظامي

كتب أخرى

الرد على الإسلام