ج. خرافات وقصص رمزية وتاريخ


 

11. الأساطير، هل هي أمثال تعلم دروساً أخلاقية، أم هل هي خرافات خيالية؟

يبدو أنه لا مكان للحديث عن الخرافات في فصل يتحدث عن العِلم، ولكننا نضعه هنا لأننا سنتحدث عن (التاريخ الصحيح) كما سجله الكتاب المقدس أو القرآن والتاريخ ينتمي للعِلم بمعناه الواسع.

 

ويدّعي د بوكاي أن التاريخ الوارد في الكتاب المقدس غير صحيح، بل هو خرافات من خيال الرواة ففي ص 20 تحت عنوان (أصل الكتاب المقدس) يقول:

(كان الكتاب المقدس قبل أن يكون مجموعة أسفار تراثاً شعبياً لا سند له إلا الذاكرة، وهي العامل الوحيد الذي اعتمد عليه في نقل الأسفار

ويلاحظ إدموند جاكوب أن تناقل هذه الأقوال كان يتم إما عن طريق الأسرة، أو عن طريق المعابد، في شكل روايات لتاريخ شعب الله المختار

وقد تحوَّل هذا التاريخ بسرعة إلى حكاية كمَثَل يوثام (قضاة 9:7-21) عندما (ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكاً، فتوجهت أولاً إلى الزيتونة، ثم إلى شجرة التين، ثم إلى الكرمة، ثم إلى العوسج)

وهذا ما سمح لإدموند جاكوب أن يقول إن الوظيفة الأسطورية في الرواية لم تعبأ بما يتعلق بموضوعات وعصور لم يكن تاريخها معروفاً جيداً).

 

والقول إن سفر القضاة ليس من الوحي، بل هو الرغبة في الوظيفة الأسطورية في الرواية، هو قول خاطئ تماماً ويؤمن المسيحيون أن سفر القضاة الذي يذكر مثَل يوثام عن الأشجار يحتوي على تاريخ صحيح لأحداث جرت في القرن 12 ق م، تالية لأحداث سفر الخروج.

 

ويقول إ جاكوب إنه في ذلك الوقت لم يكن هناك من يعبأ بموضوعات وعصور لم يكن تاريخها معروفاً جيداً ويذكر القارئ أننا عندما درسنا هذا السؤال في الفصل الأول من جزء 3 عرفنا أن الكتابة كانت معروفة في تلك المنطقة منذ عام 2300 ق م، وأنه في القرن 13 (قبل كتابة سفر القضاة بمئة سنة) كانت هناك خمسة أنواع مختلفة من الكتابة معروفة في كنعان ولا شك أن إ جاكوب مخطئ في هذه النقطة.

 

والآن لنتأمل معنى (خرافة) أو (أسطورة) جاء في سفر القضاة أصحاح 6 أن الله أمر رجلاً اسمه جدعون بن يوآش أن يهدم المذبح الذي بناه أبوه للصنم المعروف باسم (البعل) وأن يبني بدلاً منه مذبحاً للإله الواحد (يهوه) وقد فعل جدعون هذا وفي اليوم التالي جاء أهل المدينة ليوآش وقالوا: (أَخرِج ابنك لنقتله لأنه هدم مذبح البعل وقطع السارية التي عنده) فقال: (أنتم تقاتلون للبعل؟ إن كان إلهاً فليقاتل لنفسه لأن مذبحه قد هُدم) ومنذ ذلك اليوم صار اسم جدعون (يربّعل) بمعنى (ليقاتله البعل).

 

وفي الأصحاحين السابع والثامن من سفر القضاة نقرأ كيف استخدم الله جدعون و300 جندي معه ليرهِبوا جيشاً من عشرة آلاف مدياني، هربوا ليلاً وهم يقتلون بعضهم بعضاً! وبعد هذا الانتصار عاد جدعون لبيته في بلد اسمها عفرة، حيث أقام 40 سنة، وكان له سبعون ولداً وكان له أيضاً ابن اسمه أبيمالك من سُرّيته، كان يسكن في شكيم.

 

وبعد موت جدعون قال ابنه أبيمالك لأهل شكيم: (أَيُّمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: أَأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً (هم أولاد جدعون) أَمْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ؟ (الذي هو أبيمالك)) (قضاة 9:2) فقرروا أن يتبعوا أبيمالك، وبمساعدتهم ومساعدة سكان القلعة ذهب أبيمالك إلى بيت أبيه في عفرة وقتل إخوته من أبيه، ولم يبقَ منهم إلا الأصغر واسمه يوثام لأنه اختبأ واجتمع أهل شكيم ليملّكوا أبيمالك عليهم (قضاة 9:5 و6).

 

يوثام يحكي مَثَله

فوقف يوثام على رأس جبل جرزيم ونادى (اِسْمَعُوا لِي يَا أَهْلَ شَكِيمَ يَسْمَعْ لَكُمُ اللّهُ مَرَّةً ذَهَبَتِ الْأَشْجَارُ لِتَمْسَحَ عَلَيْهَا مَلِكاً فَقَالَتْ لِلزَّيْتُونَةِ: امْلِكِي عَلَيْنَا فَقَالَتْ لَهَا الزَّيْتُونَةُ: أَأَتْرُكُ دُهْنِي الَّذِي بِهِ يُكَرِّمُونَ بِيَ اللّهَ وَالنَّاسَ، وَأَذْهَبُ لِأَمْلِكَ عَلَى الْأَشْجَارِ؟ ثُمَّ قَالَتِ الْأَشْجَارُ لِلتِّينَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا فَقَالَتْ لَهَا التِّينَةُ: أَأَتْرُكُ حَلَاوَتِي وَثَمَرِي الطَّيِّبَ وَأَذْهَبُ لِأَمْلِكَ عَلَى الْأَشْجَارِ؟ فَقَالَتِ الْأَشْجَارُ لِلْكَرْمَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا فَقَالَتْ لَهَا الْكَرْمَةُ: أَأَتْرُكُ مِسْطَارِي الَّذِي يُفَرِّحُ اللّهَ وَالنَّاسَ وَأَذْهَبُ لِأَمْلِكَ عَلَى الْأَشْجَارِ؟ ثُمَّ قَالَتْ جَمِيعُ الْأَشْجَارِ لِلْعَوْسَجِ: تَعَالَ أَنْتَ وَامْلِكْ عَلَيْنَا فَقَالَ الْعَوْسَجُ لِلْأَشْجَارِ: إِنْ كُنْتُمْ بِالْحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً فَتَعَالُوا وَاحْتَمُوا تَحْتَ ظِلِّي وَإِلَّا فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنَ الْعَوْسَجِ وَتَأْكُلَ أَرْزَ لُبْنَانَ!

 

ثم مضى يوثام يقول: فَالْآنَ إِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالْحَقِّ وَالصِّحَّةِ إِذْ جَعَلْتُمْ أَبِيمَالِكَ مَلِكاً، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ خَيْراً مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ لَهُ حَسَبَ عَمَلِ يَدَيْهِ - لِأَنَّ أَبِي قَدْ حَارَبَ عَنْكُمْ وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ وَأَنْقَذَكُمْ مِنْ يَدِ مِدْيَانَ - وَأَنْتُمْ قَدْ قُمْتُمُ الْيَوْمَ عَلَى بَيْتِ أَبِي وَقَتَلْتُمْ بَنِيهِ، سَبْعِينَ رَجُلاً عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ وَمَلَّكْتُمْ أَبِيمَالِكَ ابْنَ أَمَتِهِ عَلَى أَهْلِ شَكِيمَ لِأَنَّهُ أَخُوكُمْ! فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالْحَقِّ وَالصِّحَّةِ مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ فِي هذَا الْيَوْمِ، فَافْرَحُوا أَنْتُمْ بِأَبِيمَالِكَ، وَلِْيَفْرَحْ هُوَ أَيْضاً بِكُمْ وَإِلَّا فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَبِيمَالِكَ وَتَأْكُلَ أَهْلَ شَكِيمَ وَسُكَّانَ الْقَلْعَةِ، وَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَهْلِ شَكِيمَ وَمِنْ سُكَّانِ الْقَلْعَةِ وَتَأْكُلَ أَبِيمَالِكَ)

 

ثُمَّ هَرَبَ يُوثَامُ وَفَرَّ وَذَهَبَ إِلَى بِئْرَ، وَأَقَامَ هُنَاكَ مِنْ وَجْهِ أَبِيمَالِكَ أَخِيهِ) (قضاة 9:7 -21)

 

وواضح أن هذه الأسطورة مُثَلٌ يُعلِّم درساً أخلاقياً، ولكنها ليست تاريخاً مروياً كأسطورة وهذه الخرافة أو الأسطورة تُروَى وسط أحداث تاريخية، دون أن تكون حدَثاً تاريخياً ويقارن د بوكاي بين تاريخ الكتاب المقدس وملحمة أنشودة رولاند (ص 22) ولكن قارئ مَثَل يوثام يقدر أن يقرأ القصة كاملة فيميّز بين التاريخ الحقيقي والأسطورة المروية معه، لتسوق درساً أخلاقياً لأهل ذلك الزمان ولنا نحن اليوم.

 

وقد أثبت رجال الحفريات صدق قصة جدعون، فقد كتب أستاذ الحفريات (سيجفريد هورن) عام 1968

(أثناء اشتراكي في حفريات شكيم عام 1960 اكتشفنا أن المدينة وهيكل بعل بها تدمَّرا في القرن 12 ق م، وهو الوقت الذي دمرهما فيه أبيمالك ابن القاضي جدعون والدليل هو قطع الفخار التي ترجع إلى عام 1150 ق م وما أقوى تقارب البرهانين، من التاريخ الكتابي، ومن الحفريات) (10)

الأحداث القرآنية التاريخية، هل هي أساطير؟

 

سليمان وملكة سبا:

جاء في سورة النمل 27:15-44 (من العهد المكي الوسيط) (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِّي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ (الهدهد) أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ (سليمان): سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ (الملكة): يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سَلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إلَِيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ (سليمان): يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ (سليمان) مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِرُّوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ (سليمان): إِّنَهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَواَرِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

 

هذه القصة عامرة بكلام الهدهد والنملة والعفريت من الجن، والإتيان بالعرش في طرفة عين ويقدم حميد الدين ملحوظة يصف فيها (العفريت) بأنه نوع من الشياطين الشريرة الموجودة في كثير من القصص الخيالية!

 

فماذا يقول الكتاب المقدس عن سليمان والحيوان والطير؟

 

(وَتَكَلَّمَ (سليمان) بِثَلَاثَةِ آلَافِ مَثَلٍ، وَكَانَتْ نَشَائِدُهُ أَلْفاً وَخَمْساً وَتَكَلَّمَ عَنِ الْأَشْجَارِ، مِنَ الْأَرْزِ الَّذِي فِي لُبْنَانَ إِلَى الزُّوفَا النَّابِتِ فِي الْحَائِطِ وَتَكَلَّمَ عَنِ الْبَهَائِمِ وَعَنِ الطَّيْرِ وَعَنِ الدَّبِيبِ وَعَنِ السَّمَكِ وَكَانُوا يَأْتُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ لِيَسْمَعُوا حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ) (1 ملوك 4:32-34)

 

ومع ذلك يقول د بوكاي في كتابه (الإنسان):

(لم أجد في أي آية قرآنية أية إشارة إلى خرافة أو أسطورة منذ وصوله للبشر، كما وجدت في الكتاب المقدس المكتوب بأقلام مؤلفين تكلموا بلغة العصور التي عاشوا فيها) (11)

ولا يستطيع المسلم أن يضع قصة (سورة النمل) التي ذكرناها تحت باب (المثَل أو الأسطورة التي تعلّم درساً) لأن القرآن يذكرها كحادثة تاريخية، فإن القصة السابقة لها تذكر حادثة تاريخية هي رؤية موسى للعليقة المشتعلة بالنار، والقصتين التاليتين هما إرسالية النبي صالح إلى قبيلة ثمود، ثم حديث لوط إلى قومه، والقرآن يذكرهما في سور أخرى كأحداث تاريخية.

 

واضحٌ إذاً أن مَثَل يوثام عن حديث الأشجار يجيء بعد حادثة تاريخية هي قتل أولاد جدعون السبعين وقد أدرك سامعو يوثام أنه يضرب لهم مثَلاً أما قصة سليمان (في سورة النمل) فتجيء بين قصتين تاريخيتين، ولا تشير إلى أنها مذكورة كمَثَل.

 

وإن كان د بوكاي حريصاً على دراسة (مصادر الكتاب المقدس) فقد كان حرياً به أن يدرس كتاب سنكلير تسدل (مصادر الإسلام) (12) الذي ذكر أن قصة سورة النمل عن سليمان مأخوذة عن الترجوم الثاني لسفر أستير، وتقول قصة الترجوم إن رِجلي ملكة سبإ كانتا مليئتين بالشعر كرِجلي رجل وقد جاءت هذه الفكرة في الكتاب الإسلامي (عرائس المجالس).

 

موت سليمان:

ونورد أيضاً قصة القرآن عن موت سليمان كما جاءت في سورة سبإ 34:12-14 (وهي من العهد المكي المبكر) (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلوُا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).

 

نرى هنا الملك سليمان يتكئ على عصاه، يراقب الجن وهم يعملون في خدمته ومات وهو متكئ، دون أن يشعر بذلك أحدٌ من خدمه الذين يقدمون له الطعام، ولا أحد من قادة جيشه الذين يتلقون منه الأوامر، ولا أحد من نبلائه الذين يصادقونه، ولا حتى الهدهد الذي أحاط عِلماً لم يعلمه سليمان إلى أن قرضت دودة الأرض عصاه فسقط أرضاً.

 

ترى ما هو تعليق د بوكاي على هذه القصة؟

 

ولكن اسمع ما يقوله الكتاب المقدس عن سليمان: (وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفاً يَحْمِلُونَ أَحْمَالاً، وَثَمَانُونَ أَلْفاً يَقْطَعُونَ فِي الْجَبَلِ، مَا عَدَا رُؤَسَاءَ الْوُكَلَاءِ لِسُلَيْمَانَ الَّذِينَ عَلَى الْعَمَلِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَ مِئَةٍ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الشَّعْبِ الْعَامِلِينَ الْعَمَلَ) (1 ملوك 5:15 و16)

 

ويواجهنا سؤال أخلاقي: هل يخدع الله الجن ليسخّرهم ليخدموا سليمان؟ وهو نفسه السؤال الذي نثيره بخصوص صلب المسيح: هل يخدع الله البشر فيظنون أنهم صلبوا المسيح، بينما واقع الحال أنه شُبِّه لهم؟

 

تقول سورة آل عمران 3:52 و53 إن تلاميذ المسيح كانوا مؤمنين به، ولكن آية 54 تقول (وَمَكَرُوا (اليهود الذين كفروا بالمسيح) وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) والمكر هو الخدعة.

 

ويقول الإنجيل إن شيوخ اليهود بمكر أرادوا أن يلقوا القبض على المسيح سراً حتى لا يحدث شغب في الشعب ولكن لماذا يخدعهم الله ليظنوا أنهم ملكوا مقصدهم، ثم يطلق على نفسه لقب (خير الماكرين)؟ إن هذه الخدعة تخدع تلاميذ المسيح أيضاً، وهم من المؤمنين! كيف للإله الحق أن يفعل هذا؟

 

روايات متّى التي (يستحيل تصديقها)

يقول د بوكاي (ص 82) إن متّى (ألحق بكتابه روايات يستحيل بالدقّة تصديقها) فلنتأمل متى 27:50-53 (فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ (وهو على الصليب)، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ وَالْأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ (أورشليم)، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ)

 

وتعال نرَ تعليق د بوكاي على هذا: يقول (ليس لهذه الفقرة من إنجيل متى مثيل في الأناجيل الأخرى) (ص 82) بمعنى أنها وردت مرة واحدة وينسى د بوكاي إن إنكار صلب المسيح لم يأت في القرآن إلا مرة واحدة في سورة النساء 4:157!

 

ثم يقول: (ولا نرى كيف استطاعت أجساد القديسين المعنيين أن تقوم عند موت المسيح، وألا تخرج من قبورها إلا بعد قيامة المسيح) (ص 82 و83)

 

وللرد أقول: إنه بالرغم من أن الفقرة توحي بهذا المعنى الظاهري، إلا أننا يجب أن نضع الشك في مصلحة الكاتب فلا شك أنه لم يقصد أن أولئك الأموات الذين قاموا ظلوا في قبورهم الباردة يرتعشون من يوم الجمعة إلى صباح الأحد لقد قصد أن القبور تفتحت يوم الجمعة وأن الأموات قاموا يوم الأحد وقت أن قام المسيح، اشتراكاً معه في انتصاره على الموت.

 

صحيح أن التوراة والإنجيل كُتبا بلغة البشر الذين أتاهم الوحي الإلهي، ولكن الروح القدس عصمهم من خلط الخرافة والأسطورة البابلية أو الرومانية أو اليونانية بالوحي المقدس.

 

خاتمة

لئن منح د بوكاي نفسه حرية إيجاد توافق في ما يراه غيرُه تناقضاً في القرآن، فإن عليه أن يمنح الحق نفسه لمن يحبون التوراة والإنجيل فعندما يقولون إن سلسلة نسب المسيح في بشارة متى تتابع سلسلة النسب من يوسف، وإن سلسلة نسب لوقا تتابعه إلى العذراء مريم، فليس من حق د بوكاي أن يقول إن في الأناجيل (أموراً متناقضة لا تتفق والعِلم الخيال والهوى في عملية تحريرها) (ص 12) ولقد اعتمد د بوكاي على هذا الافتراض في كل كتابه.

 

وقد لاحظ المشكلة التي أثارها د بوكاي المؤرخ الكنسي الأسقف يوسابيوس، الذي عاش في فلسطين وكتب تاريخ الكنيسة بعد صعود المسيح بأقل من 200 سنة، واقترح لها الحلّ الذي ذكرناه (تفتُّح القبور يوم الجمعة، وقيامة الأجساد يوم الأحد).

 

وعندما يقول د بوكاي إنه درس اللغة العربية ليفهم القرآن في لغته الأصلية، فليقرأ سورة العنكبوت 29:14 (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً).

 

فلماذا يقول عن البشير متّى

(ونعلم أن سلسلة الأنساب في الكتاب المقدس تنسب إلى إبرهيم وإلى 19 شخصاً ممن سبقوه، حتى آدم، أعماراً طويلة غير قابلة للتصديق، حتى يقولون إن متوشالح بلغ من العمر 969 عاماً).

 

فكيف يقول إن 969 سنة لمتوشالح غير قابلة للتصديق، ويصدق 950 عاماً لنوح بحسب القرآن؟ ألم يكن من واجبه أن يزن بنفس الميزان؟

 

لقد برهنت الحفريات الحديثة صِحّة ما ورد في الكتاب المقدس من أحداثٍ تاريخية، كما أن معجزات المسيح وتحقيق النبوات يضيفان أدلة جديدة على صحة الكتاب المقدس والحكيم هو الذي ينتظر ما تكشفه الحفريات القادمة، ففي عام 1947 مثلاً لم يكن أحد يعلم أن في عام 1948 سنجد أجزاء من سفر اللاويين من التوراة يرجع تاريخ كتابتها إلى عام 200 ق م، وهي تشبه ما بين أيدينا من التوراة، وتبرهن أن التوراة لم يصبها تحريف ولا تغيير.

 

الفصل التالي    الفصل السابق

 

10. Siegfried H Horn, RECENT ILLUMINATION OF THE OLD TESTAMENT, Christianity Today, June , , p

11. M Bucaille, WHAT IS THE ORIGIN OF MAN? , Paris,

12. W St ClairTisdall, THE SOURCES OF ISLAM, T& T Clark, Edinburgh

 


القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم

القرآن والعلم

كتب أخرى

الرد على الإسلام