صَلْب المسيح حقيقة لا افتراء

رد جون جلكرايست على كتاب أحمد ديدات " صَلْب المسيح بين الحقيقة والافتراء"

في هذا الكتاب:

مقدمة

1- هل خطط المسيح لمحاولة انقلاب؟

2- صورة المسيح في كتيب ديدات.

3- هل دافع المسيح عن نفسه وقت محاكمته؟

4- نظرية أن المسيح بقي حياً بعد صلْبه.

5- تصريحات طائشة في كتيب ديدات.

6- حقائق إنجيلية يطمسها ديدات متعمداً.


مقدمة

يشبه الكتاب المقدس سندان الحدّاد الذي تحطمت عليه مطارق كثيرة، ورغم ذلك فإن أعداء الإنجيل لا يكلّون من محاولة تحطيمه! وأحمد ديدات، المنتمي إلى " مركز نشر الدعوة الإسلامية " في دربن بجنوب أفريقيا أحد هؤلاء،فكتب كتيباً عنوانه " هل صُلب المسيح؟ " تم توزيع ما يزيد من مائة ألف نسخة منه، ثم شنَّ في كتيبه بعنوان " صلْب المسيح بين الحقيقة والافتراء." هجوماً جديداً على العقيدة المسيحية!

ومجمل موضوع كتيبه هذا أن المسيح كان صاحب طبع و خلق ضعيفين، وأنه دبر لانقلاب فاشل في أورشليم، وأنه بطريق الصدفة بقي حياً بعد صلبه. وهذه النظرية ليس لها سند في الإنجيل، كما أنها تتناقض مع القرآن الذي يذكر أن المسيح لم يُعلق أبداً على صليب ( سورة النساء 157 ) . ودعاة هذه النظرية هم فقط طائفة الأحمدية في باكستان، والذين تم الإعلان عنهم أنهم أقلية " غير مسلمة ".

ولا نعلم لماذا يناصر ديدات قضية طائفة مشبوهة، ولماذا يدعو إلى نظرية ملعونة من المسيحيين والمسلمين على السواء؟

وسنفند هنا ما جاء في كتيب ديدات، مركزين فقط على الموضوع الذي نحن بصدده، دون التعرض لموضوعات كثيرة في كتيبه خرج فيها ديدات عن صُلب الموضوع، أو لأنه كتب مجرد نظريات واحتمالات لا تمت للحقيقة والواقع بصلة.


-1-
هل خطط المسيح لمحاولة انقلاب فاشلة؟

يذكر ديدات في أول كتيبه أن المسيح خطط لانقلاب خلال الأسبوع الأخير الذي أمضاه في أورشليم، ولكن التخطيط فشل! وتحت عنوان " انقلاب لم يتم " يقول ديدات " .... آماله الضخمة لن تتحقق. انتهى العرض نهاية هزيلة " ( ص10 ).

وأنها بالتأكيد مفاجأة لكل المسيحيين والمسلمين أن يسمعوا لأول مرة بعد ما يقرب من عشرين قرناً أن المسيح كان يخطط لانقلاب سياسي! مع أن المسيح كان يحرص باستمرار أن يجنب نفسه التورط في السياسة! لقد رفض أن يقحم نفسه في مناقشة حول أحقية دفع الضرائب للرومان المستبدين ( لوقا 19:20-26 )، كما انسحب من وسط الجموع حينما أرادوا أن ينصبوه ملكاً سياسياً ( يوحنا 15:6 )، وعلّم تلاميذه ألاّ يسعوا وراء سلطة سياسية ( لوقا 25:22-27 ).

لقد بذل اليهود كل ما في وسعهم لإقناع بيلاطس الحاكم الروماني أن المسيح كان يدعو لثورة ضد قيصر ( لوقا 2:23 ) ولكن بيلاطس لم يقتنع! بل حتى ديدات نفسه يناقض نفسه ويقول أن هذه التهمة " كانت تهمة زائفة " وأن المسيح يبدو غير مسبِّب لأي خطر ولم يكن مشاغباً ولا إرهابياً معادياً للنظام ( ص27 ). ثم يقول " لقد كانت مملكته روحية، وكانت رئاسته لها كي ينقذ أمته من الرذيلة والانحلال " ( ص27 ).

لذلك يبدو أمراً بالغ الغرابة أن نجده يحاول في موضع آخر من كتيبه أن يثبت أن المسيح كان في الحقيقة يدبر لانقلاب سياسي ليخلص اليهود من مستعمريهم. لكن تعليقاته في صفحة 27 من كتيبه – ودون أن يدري – سحبت البساط من تحته أطروحته ونظريته، إذ اعترف أن المسيح لم يكن يخطط لثورة.

على أن هذه النظرية لا يقرها عقل، ومع ذلك فإن ديدات حاول برهنتها بإشارته إلى قول المسيح لتلاميذه ( عند القبض عليه ) أنهم يجب أن يبيعوا ثيابهم ويشتروا سيفاً ( لوقا 36:22 ). ويفسر ديدات هذا القول بأن المسيح كان يدعوهم للتسلُّح والاستعداد " للجهاد" و " الحرب المقدسة "! على أن إجابة التلاميذ على تعليق المسيح تبين خطأ ديدات، فقد أجابوا " يا رب هوذا هنا سيفان " فقال لهم " يكفي " ( لوقا 38:22 ).

ومن المستحيل أن سيفين " يكفيان " لتدبير ثورة! فمن الواضح أن المسيح كان يعني " يكفي من هذا "( أي من عدم فهمكم لما أقول).ولكن لأن ديدات يحاول إقناع قرائه أن المسيح كان يخطط لانقلاب، أجهد نفسه مجادلاً بأن سيفين كانا كافيين للإطاحة بكل النظام اليهودي في إسرائيل، ثم بمستعمريهم الرومان. وكما هو متوقع، فإن جداله لا يمكن أن يصل لدرجة الإقناع. وهو يلجأ هارباً إلى الخيال، محاولاً الإيحاء أن تلاميذ المسيح كانوا " مسلحين بعصي وحجارة " ( ص13 ) كغوغاء متمردين. ولا يوجد في الإنجيل أي دليل يؤيد هذا الزعم الذي يثيره ديدات، ولكنه يخرج عن منطق الأحداث ويقول أن المسيح اعتبر أن سيفان يكفيان لتدبير ثورة كبيرة! وفي موضع آخر يقول ديدات " كان تلاميذه الأقربون دائماً لا يفهمونه ولا يفهمون أعماله " ( ص23 ).

وكلمة " دائما " مطبوعة بحروف بارزة! ومرة أخرى يناقض ديدات نفسه بغير فطنه! فلو أن المسيح كان يقصد أن يسلّح تلاميذه ( كما يزعم ديدات ) يكون التلاميذ قد فهموه تماماً. على أن الحقيقة هي أنهم أساءوا فهمه. والدليل على ذلك موجود في نص الإنجيل، فالمسيح يقول " ... فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هَذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ»" ( لوقا 37:22 ).

والمسيح هنا يقتبس ما ورد في سفر إشعياء أصحاح 53، وهو أصحاح نبوي كُتب حوالي سبعمائة سنه قبل المسيح، وفيه يتنبأ إشعياء بآلام المسيا نيابة عن شعبه، وقال أنه سيقدم نفسه ذبيحة خطية ( إشعياء 10:53 ). والآية الكاملة التي أقتبسها المسيح هي " لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ " ( إشعياء 12:53 ).

وقال المسيح بوضوح إن هذه النبوة كانت على وشك أن تتحقق فيه، ومعناها واضح بكل جلاء. سوف " يسكب للموت نفسه " في اليوم التالي على الصليب، وسوف " يُحصى مع أثمة " ( وقد تم صلبه بين لصين- لوقا33:23 ) وأيضاً سوف " يحمل خطية كثيرين " لما قدم نفسه كفارة عن خطايا العالم على الصليب وسوف " يشفع في المذنبين "( لقد صلى من أجل قاتليه على الصليب- لوقا 34:23 ). ومن أجل عمل النعمة هذا فإن الله سيعطيه " من تعب نفسه فيرى ويشبع " ( إشعياء 11:53 ) كما سوف يعطيه " غنيمة انتصاره " – نبوّة صريحة عن قيامته من الأموات.

يتجاهل ديدات كل تصريحات المسيح، لأنها تتعارض من غرضه! لكن من الواضح أن المسيح كان يتوقع صلْبه وموته وقيامته من الأموات كمخلص العالم، وأنه لم يكن يخطط لانقلاب. كانت الأحداث الوشيكة الوقوع ستأخذ المسيح من بين تلاميذه، وكانت تحريضاته لهم ليشتروا " أكياساً ومزواد وسيوفاً " تعبيراً دارجاً نصحهم به ليستعدوا لكسب معيشتهم عندما يفارقهم.

ترتكز نظرية ديدات عن الانقلاب الفاشل على زعمه أن دخول المسيح أورشليم قبل ذلك بأسبوع واحد، وسط جمع من التلاميذ يهللون له كالمسيا، كان زحفاً نحو أورشليم. ويقول " أخفق الزحف نحو أورشليم "( ص21 ).

وتحت عنوان " زحف نحو أورشليم " يسلم ديدات أن المسيح دخل المدينة بصورة رمزية راكباً على جحش، وليس الجحش وسيلة انتقال تصلح لانقلاب، ولكن المسيح اختار هذه الوسيلة لأن الجحش يرمز للسلام وليونة الطبع، وقد أراد بذلك أن يظهر لأورشليم أنه قادم إليها في مهمة سلام متمماً وعد الله المسجل في نبوة أخرى جاءت من قرون عديدة ماضية " اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ" ( زكريا 9:9 ).

لقد جاء في وداعة وسلام راكباً حيواناً يرمز إلى غرضه " ويَتَكَلمُ بِالسَلاَمِ لْلأُمَمَ ". هكذا تستمر النبوة في سفر زكريا10:9. فما أسخف وما أغرب لا معقولية زعم ديدات أن المسيح كان على رأس " زَحْف " أو أنه كان يحرض على " كفاح مسلح " عنيف حسب ما يحدث في أيامنا هذه!

ويتجاهل ديدات – حسبما يمليه عليه هدفه ويناسبه – أن المسيح وهو على وشك أن يقبض عليه سأله تلاميذه " يَا رَبُّ أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ؟" ( لوقا 49:22 ) وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقط أذنه. ولكن المسيح وبَّخ تلميذه وشفى الرجل الذي جُرح. وفي هذا برهان على أن المسيح لم يكن يخطط لانقلب مدمر بأي حال من الأحوال، ولكنه قدّم أسمى لفتة حب للعالم، وهو الذي جاء ليموت على الصليب من أجل خطايا الإنسان، تحقيقاً للنبوة القديمة " وَأُزِيلُ إِثْمَ تِلْكَ الأَرْضِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ " ( زكريا 9:3 ).

لقد حل هذا اليوم، وكان المسيح يعد نفسه " ليتمم فداء أبدياً " ( عبرانيين 12 :9 ) بحَمْل خطايا العالم في يوم الجمعة العظيمة، والذي لأجله قد جاء.

إن إدعاء ديدات أن المسيح كان يخطط لانقلاب فاشل إهانة بالغة لجلال نعمة المسيح، وتهكم سيئ لا يتوقعه إنسان من ديدات الذي يُفترض فيه أنه يؤمن أن المسيح من أعظم الرجال الذين عاشوا على مر العصور.

وواضح من كتابة ديدات أنه لم يؤدِّ أي تدريبات عسكرية. وجهله بهذا الميدان ينكشف في صفحة 14 من كتيبه حيث يزعم أن المسيح أصطحب بطرس ويعقوب ويوحنا معه إلى بستان جثسيماني كخط دفاع داخلي، بينما كان يحرس البوابة ثمانية آخرون. ويزعم ديدات أن هذا كان تكتيكاً بارعاً " يستحق أن يُكرّم من أجله أي ضابط تخرّج من ساند هرست – وهي أكاديمية عسكرية ذائعة الصيت في إنجلترا " ( صفحة 14 ). وقد علَّق ضابط سابق بالجيش البريطاني على هذا الزعم أته لم يسمع مطلقاً مثل هذه الأشياء تُدرس في ساند هرست!! ويقول ديدات عن الثمانية تلاميذ الذين تركهم المسيح عند مدخل البستان إنه " يمركزهم بخطة استراتيجية عند مدخل البستان مدججين السلاح كما يقتضي موقف الدفاع والكفاح " ( صفحة 14 ).

ويستطرد قائلاً إن المسيح أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا " هؤلاء المملوئين غيرة، والمتطرفين في الحماسة ( الأيرلنديون المحاربون في عصرهم )" ( صفحة 14 )، ليجهز خط دفاعه الداخلي.

ولكن جدل ديدات يتداعى أمام التحليل الدقيق. لقد كان بطرس ويعقوب ويوحنا صيادي سمك مسالمين من الجليل ( كان واحد فقط من تلاميذ يسوع يُدعى الغيور ولكنه لم يكن أحد هؤلاء الثلاثة - لوقا 15:6 ) ولقد كانوا الدائرة الأقرب له من بين تلاميذه طوال فترة خدمته. ففي مناسبة التجلي صعد هؤلاء الثلاثة فقط معه الجبل، بينما اختلط باقي التلاميذ بالجماهير أسفل الجبل ( متى 1:17، 14-16 ). وحينما أقام ابنة يايرس من الموت، اصطحب معه نفس التلاميذ الثلاثة إلى داخل المنزل ( لوقا 51:8 ). وهذا يُظهر لنا بوضوح أن المسيح لم يكن يخطط لدفاع بارع في جثسيماني عندما اصطحبهم معه إلى داخل البستان. لقد كان ينشد رفقتهم في مناسبة هامة لأنهم الصُّحبة الحميمة وأقرب تلاميذه إليه. كل هذا يُظهر بصفة قاطعة أن نظرية ديدات أن المسيح كان يخطط لانقلاب، هي كلام خالٍ من المعنى وغير معقول.


-2-
صورة المسيح في كتيب ديدات

من الغريب في كتيب ديدات الصورة التي يقدم بها المسيح، لأن المفروض أن يحترم المسلمون المسيح كالمسيا وأحد أعظم أنبياء الله. ولكن في كتيب ديدات تصريحان فيهما اعتداء صارخ على المسيحيين، وفيهما بالتأكيد إيذاء للمسلمين المخلصين الذين تعلموا أن يحترموا المسيح كرجل فضيلة وكرامة.

اسمع ديدات يقول " لقد أخفق المسيح في أن ينتبه إلى تحذير الفريسيين ليضع حداً لحيوية ونشاط تلاميذه الزائديْن ( لوقا 39:19 ). لقد أخطأ حساب المعركة وعليه الآن أن يدفع ثمن فشله " ( صفحة 10 ).

وفي صفحة أخرى يقول " أخطأ المسيح في الحساب خطأً مزدوجاً " ( صفحة 19 ) وذلك حينما ظن أن باستطاعته الاعتماد على تلاميذه للدفاع عنه، وأنه لن يحتاج للتعامل إلا مع اليهود فقط. وكما لو أن هذه المزاعم لم تكن كافية للإساءة إلى المسيح، يستطرد ديدات ليتكلم عن " أن يسوع كان ينفث غضباً ". ويملأ ديدات مكيال افتراءاته بقوله " أن المسيح كان أبأس الرسل حظاً " (صفحة 23 ).

ليس لدينا أدنى شك أن المسلمون يعتبرون هذا التصريح في غاية العدوانية، ولا يتردد المسيحيون في اعتباره تجديفاً. وبالرغم من ذلك فلسنا نرغب أن نعبر عن سخط عاطفي، بل أن نوضح كم هي غبية وواهية مزاعم ديدات!

إن كل ما نحتاج إليه هو تحليل سريع للساعات الأخيرة في حياة المسيح قبل صلبه، ليتضح أنه لا أساس بالمرة للادعاء بأن المسيح أخطأ في حساباته، أو أنه كان ينفث غضباً. فأن كل ما قاله المسيح في آخر ليلة أمضاها مع تلاميذه يُظهر إدراكه الكامل لكل ما كان سيحل به، واستعداده لأن يتحمل ذلك. لقد كان يعرف أن يهوذا الإسخريوطي سيخزنه ( مرقس 18:14 ) بل إنه كان يعرف ذلك لمدة طويلة ( كما يتضح من يوحنا 64:6 ). وكان يعرف أن بطرس سينكره ثلاث مرات ( متى 34:26 ). كما تنبأ بأنه سيتم القبض عليه، وأن كل تلاميذه سيتخلون عنه ( مرقس 27:14 ). ولسنا نجد أي سند بالمرة لزعم ديدات أن المسيح " كان يأمل أن يحارب تلاميذه لإنقاذه، وأنه أخطأ في تقديراته ". فقد كان المسيح يقدّر بالضبط ما سيحدث، وتنبأ بكل ما فعله تلاميذه جميعاً، وقد حدث بالتمام ما قال إنهم سيفعلونه!

لقد قال لهم باستمرار في تلك الليلة المصيرية إنه على وشك أن يتركهم ( يوحنا 33:13، 23:14، 28، 5:16 ) ويجب أن لا تخور عزيمتهم حيث أن الآمه ستكون متمشية تماماً مع ورد في نبوات الأنبياء السابقين ( لوقا 22:22 ). وعندما جاء اليهود أخيراً للقبض عليه – واستبعاداً لأن يكون هناك إعداد لأي نوع من أنواع الدفاع – سلّم نفسه لأعدائه، كما نقرأ " فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. " ( يوحنا 5،4:18 ).

" فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ " كان يعلم أنه سيُصلب ويُقتل، ولكنه سيقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، كما تنبأ بذلك مراراً بكلام صريح ( متى 22:17، 23، 19:20 لوقا 22:9، 18-33:31 ). لم تكن هناك أي حاجة لتصفية حسب مع اليهود. فلو أراد المسيح أن يتجنب القبض عليه لغادر أورشليم قبل حدوث ذلك! غير أنه ذهب إلى ذات المكان الذي علم أن يهوذا الإسخريوطي سيقود اليهود للبحث عنه فيه ( يوحنا 2:8 )، وعندما حضروا سلّم نفسه إليهم طواعية. وأكثر من هذا، فإن المسيح لم يكن في حاجة للمجهودات الشجاعة لأحد عشر تلميذاً للدفاع عنه! فقد قال بوضوح أنه يقدر أن يستدعي أثنى عشر جيشاً من الملائكة ليساعدوه، لو أنه أراد ذلك (متى 53:26 ). علماً بأن ملاكاً واحداً فقط كان يقدر أن يبيد مدناً وجيوشاً ( 2 صموئيل 16:24، 2 ملوك 35:19 ) وأن المرء ليرتعد رعباً من التفكير فيما كان اثنا عشر جيشاً من الملائكة سيفعلونه لحمايته، لو أنه استدعاهم ليفعلوا ذلك.

ليس هناك أذن أية قيمة لزعم ديدات أن المسيح كان يتآمر ويخطط، وأنه فشل نتيجة سؤ تقديره. على العكس من ذلك، فإنه كان يعلم بالتدقيق ما سيحدث له! وبقدْر ما هو مستبعد تماماً أن يكون " فاشلاً " فقد أصبح أكثر الناس الذين عاشوا في أي عصر نجاحاً – فهو الرجل الأوحد الذي أقام نفسه من الأموات إلى حياة ومجد أبديين. ابراهيم مات وموسى مات، وكل البشر ماتوا ولا زال الموت يمسك بهم في قبضته إلى يومنا هذا. أما " مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ " ( 2 تي 10:1 ). لقد أنتصر على الموت وصعد إلى السموات حيث دوماً يسود. فيا لهول إهانة ديدات وافتراضه أن المسيح أكثر رسل الله سوء حظ. مع أنه أعظم رجل عاش على مر العصور!

لقد وضح الآن كما - سيتضح أكثر فيما يلي – أن كتيب ديدات ما هو إلا تشويه وتحريف للكتاب المقدس. فهو يحرف معنى النصوص التي يشعر أنه يمكن أن يلويها لخدمة غرضه، كما أنه يخفي ويتجنب نصوصاً أخرى لأنها تدحض نظريته تماماً.


-3-
هل دافع المسيح عن نفسه وقت محاكمته

يحاول ديدات ( في صفحة 28 من كتيبه ) أن يشكك في رواية الإنجيل عن صلب المسيح بإثارة الجدل عن نبوة وردت في سفر إشعياء 7:53 بأنه لن يفتح فمه دفاعاً عن نفسه عند محاكمته، ولكنه سيُقاد إلى الصليب " كَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ ". وواضح من النبوة أنها لا تعني أن المسيح لن يقول شيئاً عند القبض عليه، بل بالأحرى أنه لن يحاول الدفاع عن نفسه أمام من يتهمونه. ويستند ديدات في جدله على تصريحات معينة أدلى بها المسيح، ويحاول أن يستخرج منها دفاع المسيح عن نفسه ضد من اتهموه.

ويسخر ديدات من المسيح متسائلاً عما إذا كان قد تكلم " وفمه مغلق " لما قال لبيلاطس إن مملكته ليست من هذا العالم ( يوحنا 36:18 ). وعندما طٌلب من أحد خدام رئيس الكهنة أن يشهد إن كان المسيح قد قال شيئاً رديئاً ( يوحنا 23:18 ). وعندما صلَّى إلى الله أن تعبر عنه كأس الآلام التي تنتظره إن أمكن ( متى 39:26 ).

وجدير بنا أن نشير أنه ولا واحدة من هذه التصريحات صدرت عن المسيح أثناء محاكمته العلنية أمام السنهدريم ( المحكمة العليا اليهودية ) في منزل قيافا رئيس الكهنة، أو أمام بيلاطس البنطي الحاكم الروماني. فالتصريح الأول قاله المسيح لبيلاطس |أثناء محادثة خاصة في منزل الحاكم الروماني، والثاني أثناء مثوله أمام حنان حمي قيافا ( وليس ذلك أمام السنهدريم ) أثناء محاكمته كما يدّعي ديدات ( ص 28 ). فالمحاكمة بدأت بعد ذلك في منزل قيافا كما يذكر الإنجيل بوضوح ( يوحنا 24:18 ومتى 57:26 ) والعبارة الثالثة قالها يسوع في بستان جثسيماني قبل القبض عليه. فالدليل الذي يقدمه ديدات ليس له صلة إطلاقاً بالنقطة التي يثيرها، وهو بذلك لا يثبت شيئاً بالمرة. والذي يعنينا هو ما إذا كان المسيح قد دافع عن نفسه أمام السنهدريم في منزل قيافا أو أثناء المحاكمة العلنية أمام بيلاطس. وليس من قبيل المفاجأة أن نجد ديدات يتجاهل ما ذكرته الأناجيل عن هاتين المحاكمتين الرسميتين. فبعد أن سمع قيافا الأدلة المقدمة ضد المسيح أمام السنهدريم، طلب منه أن يجاوب على من يتهمونه. " فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً." ( متى 63،62:26 ).

وبدلاً من أن يدافع عن نفسه شهد للتو- رداً على السؤال التالي- بأنه حقاً ابن الله، وهو شهادة دعت السنهدريم أن يحكم عليه بالموت. " وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً ". وبالمثل أيضاً نقرأ أنه حينما وجه إليه بيلاطس نفس السؤال، لم يفتح المسيح فمه ليقول أي شئ دفاعاً عن نفسه: " وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟». فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدّاً. " ( متى 12:27-14 ).

على أن ديدات يراوغ فيخفي هذه الوقائع التي تكشف لنل بوضوح أن المسيح كان صامتاً أمام السنهدريم حينما تقدم شهود زور يتهمونه، كما لم يعط جواباًً، ولا عن تهمة واحدة، حينما اتهموه أمام بيلاطس. وحسبما هي طريقة ديدات التقليدية فأنه يكتم الأدلة ذات الصلة المباشرة بالموضوع الذي يتكلم عنه، ويحاول بدلاً من ذلك أن يثير جدلاً مستخدماً مناسبات أخرى لا صلة لها بالموضوع!

ولقد حدث نفس الشيء عندما ظهر المسيح أمام هيرودس ملك اليهود، قبل إعادته إلى بيلاطس : " وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَتَرَجَّى أَنْ يَرَاهُ يَصْنَعُ آيَةً. وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ " ( لوقا 8:23-10 ).

مرة أخرى حين أتُهم يسوع لم يجب بشيء. وفي كل مناسبة حينما كان يُحاكم أمام السنهدريم أو هيرودس أو بيلاطس لم يقل أي شئ إطلاقاً دفاعاً عن نفسه، وهكذا تحققت نبوة إشعياء النبي بأنه لن يدافع عن نفسه عند محاكمته، ولن يفتح فمه ليتكلم عن نفسه.ولم يصدر أيّ من الأقوال التي استشهد بها ديدات أثناء محاكمة المسيح، وهكذا تنهار تماماً واحدة أخرى من مجادلات ديدات ومغالطاته!


-4-
نظرية أن المسيح بقى حياً بعد صَلْبه

لم نتوقف عن التعجب من متابعة ديدات وهو يدعم نظريته أن المسيح قد صُلب فعلاً ولكنه نزل من على الصليب حياً! ومصدر تعجبنا أمران 1- لا يعتنق هذا الفكر إلا طائفة الأحمدية الملحدة في الإسلام، وهو نظرية ينكرها جميع المسيحيين والمسلمين الحقيقيين. 2- هذه النظرية قد فُنّدت مرة ومرات! ومع ذلك فإن ديدات مستمر في مناصرتها، رغم أنه لا يستطيع أن يرد على ما أُثير ضدها.

وعلى سيبل المثال، في صفحة ( 36 ) من كتيبه يدّعي أن الجندي المكلّف بحراسة المسيح على الصليب، عندما " رأى أنه قد مات " ( يوحنا 33:19 ) فأن هذا الجندي " قدّر " أن المسيح مات مع أنه لم يكن هناك ما يؤكد موته.

ويقول : " قّر ذلك لأنه لم يكن عنده جهاز استيذوسكوب للتحقق من الوفاة! " وما أغرب كلام ديدات! إن مراقبة الجندي وتقريره هما أعظم دليل على أن المسيح مات فعلاً. لقد كان على الجندي أن يُثبت أمام الحاكم الروماني أن الرجل المصلوب قد مات فعلاً، فإذا أخطأ الجندي كان يفقد حياته. نقرأ " فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. " ( مرقس 45،44:15 ).

لقد أدرك القائد الروماني أنه ما دام الجندي قد أكد موته، إذن فذا أمر حقيقي، لأن القانون الروماني كان يقتل الجندي الذي يسمح بفرار سجين. وعندما نجا بطرس من السجن في أورشليم، نفّذ هيرودس حكم الموت في كل الجند المعيّنين لحراسته ( أعمال 19:12 ). وأيضاً عندما ظن حارس آخر أن بولس وسيلا قد فرا من السجن " اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ ظَانّاً أَنَّ الْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا " ( أعمال 27:16 ) غير أنه اكتشف أنهما لم يهربا. لقد فضّل الانتحار على أن يُنفذ فيه حكم الموت. فماذا كان ذلك الجندي يتوقعه إذا نجا رجل محكوم عليه بالموت بسبب ملاحظات أدلى بها بإهمال وعدم اهتمام؟ هذا الجندي إذن ودون سواه هو الشاهد الذي يوثق بشهادته فيما يتعلق بموت يسوع على الصليب!!

ورغم هذا الدحض القاطع لافتراض ديدات أن الجند " قدّروا فقط " أن المسيح مات، فإن ديدات يستمر في نفس الجدل القديم. فهو من وقت لآخر يتجاهل الدليل القاطع ضد نظريته، ويعيد تقديمها. أنه لمحام ضعيف ذلك الذي لا يستطيع غير تكرار مقولاته الأولى، والتي تم دحضها كلية بواسطة خصمه.

لقد ذكر الجندي بصفة قاطعة أن المسيح مات، ولم يكن هذا كل الأمر، فإن أحد الجند طعنه بحربة في جنبه، وهو عمل يُقصد به تأكيد موته. وهذا هو بالضبط ما فعله الجندي الذي طعن جنب المسيح. وحتى لو كان المسيح في أتم صحة، فما كان يستطيع بأي حال أن يبقى حياً بعد هذه الطعنة. لكن ديدات – ويا للسخرية – يقول أن هذه الطعنة القاتلة " جاءت كنجدة للمسيح ساعدت على إحيائه بأن حركت دماءه حتى استعادت الدورة الدموية إيقاعها " ( ص36 ). وبالتأكيد فأنه ولا حتى أكثر قرائه سذاجة يقبل مثل هذا الهراء: أن طعنة حربة قاتلة في جنبه يمكن أن تساعد في إحيائه!! فعندما يلجأ شخص لمثل هذه السخافات يصبح واضحاً أن جدله يفقد كل قيمة.

سيجد القارئ بضعة صفحات في كتيب ديدات تحتوي على مثل هذه السخافة، عندما يتكلم عن المناسبة التي جاءت فيها مريم المجدلية لتدهن جسد المسيح بالحنوط بعد وقت قصير من صلبه، فيقول " بعد ثلاثة أيام يكون الجسد قد تحلل من الداخل – تتحلل خلايا الجسد وتتعفن. فإذا دلك أحد مثل هذا الجسد الفاسد فسوف يتفتت أجزاء صغيرة " ( ص 44 ).

هذا أيضاً جهل علمي مطلق. لقد مات المسيح في وقت متأخر بعد ظهر يوم الجمعة، وبعد يوم واحد وليلتين فقط ( كما يقر بذلك ديدات في نفس الصفحة ) جاءت مريم المجدلية لدهن جسده بالحنوط. ولا يمكن أن " يتفتت " جسد خلال فترة قصيرة كهذه. وبحروف بارزة يضيف ديدات أن مريم جاءت إلى القبر " بمفردها " فيما يظن لتساعد يسوع على استعادة أنفاسه! على أننا في متى 1:28 ولوقا 10:24 نرى أنها كانت برفقة امرأتين أخريين على الأقل، يونّا ومريم أم يعقوب، وذلك فقط ليُحضرن حنوطاً كن قد أعددنه حسب عادة اليهود في الدفن. ليس هناك إذن أي سند لمجادلات ديدات. أن صلب المسيح وموته وقيامته حقائق تاريخية، أما الخيال الوحيد فهو نظرية ديدات التي يفترض فيها أن المسيح استمر حياً ولم يمت على الصليب، وأنه استرد حيويته بعد ذلك في رطوبة القبر!

ولن نتعرض لواقعة زحزحة الحج، وما إذا كان المسيح قد حاول أن يعرّف تلاميذه أنه لم يكن قد مات، كما لن نتعرض موضوع " آية يونان " وهما موضوعان تعرّض لها ديدات في كتيبه، فقد أجبنا عليهما بشمول كامل في الكتيب الثاني من هذه السلسة تحت عنوان " ماذا كانت آية يونان؟" ويمكن للقراء الحصول على هذا الكتيب مجاناً من عنواننا.

وهناك زعم آخر يكرره ديدات رغم دحضه، وهو إيحاؤه أن المسيح لم يكن راغباً في الموت، مع أن الحقيقة هي أن المسيح كان كارهاً فقط لأن يتركه أبوه ويتخلى عنه لمملكه الخطية ولأذى الناس الأشرار. وقد وصل هذا أقصاه في البستان، في الليلة السابقة للصلب، عندما جاءت الساعة التي سيُسلم فيها للأشرار ( متى 45:26 ). ولو أنه كان كارهاً للموت، فإن خوفه كان سيبلغ ذروته عند مواجهة الصليب في اليوم التالي. لمنه بعد أن تقوّى في الليلة السابقة بواسطة ملاك جاء لخدمته ( لوقا 43:22 ) فقد واجه الموت بشجاعة رائعة. لقد سار للأمام بهدوء وهو عالم بكل ما كان ينتظره, واثقاً أنه سينتهي به حتماً إلى الصلب والموت – ثم القيامة والارتفاع.

لقد تحمّل كل العذابات التي حلت عليه في اليوم التالي، وبدون أدنى علامة للخوف أو الاحتجاج أسلم نفسه ليُصلب. عندما أخذوه خارج أورشليم أظهر اهتماماً أكبر بنساء المدينة وأولادهن مما أظهره لنفسه ( لوقا 28:23 ). وعلى الصليب أهتم فقط بمن حوله دون نفسه ( يوحنا 27،26:19 ). والحق أننا بدلاً من أن نجده كارهاً للموت، نكتشف في روايات الإنجيل أنه ثبّت وجهه نحو الصليب. ورغم الفرص الكثيرة التي كانت أمامه لتجنُّب الموت فإنه لم يمسك بها، بل استمر في طريقه، عازماً على تخليص الناس من خطاياهم.

وها هي واحدة من مجادلات ديدات ومزاعمه تنتهي إلى لا شئ! كما نجده يتخبط بشكل ملحوظ في موضع آخر حيث يقول : " لأن الله العلي لن يسمح أبداً بقتل ( الممسوح ) منه بالحقيقة الذي هو المسيح " ( تثنية 20:18 ) ( ص 15 ).

ليس هناك سند لافتراض أن الله لن يسمح لمسيح أن يُقتل، لأنه توجد نبوة محتومة محددة في نبوات النبي العظيم دانيال أنه " يُقْطَعُ الْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ " ( دانيال 26:9 ). وقد أخذ اليهود من كلمة " المسيا أو المسيح " الواردة في هذا النص تسميتهم للمخلص المنتظر للعالم " بالمسيا ". ومع ذلك لازال صواباً أن نقرأ في نص النبي دانيال أن هذا المسيا عينه سوف يُقطع – وهو نبوة واضحة عن صلب المسيح وموته.

ويخدعنا ديدات بصفة خاصة حينما نجده يستشهد بسفر التثنية 20:18 كشاهد كتابي يشير إلى مجيء " المسيح " أو " الممسوح " – مع أن ديدات في كتابه " ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد " يقول أن نبوة التثنية 18 هي عن محمد! ولقد برهنا أنها نبوة عن المسيح وليس ممسوح من الله ( بحسب القرآن ) إلا واحد هو ابن مريم ( آل عمران 45 ) – وجميل أن نلاحظ كيف أنزلق ديدات في خطأ آخر من أخطائه ليعز النبوة للمسيح.

ولعل أكثر حجج ديدات منافاة للعقل قوله أن المسيح طلب النجاة في بستان جثسيماني، فظهر له ملاك من السماء يقويه " أملاً في أنه سينقذه " ( ص35 ). ثم يقول ديدات إن الله وضع في فكر الجنود أن المسيح مات على الصليب " علامة من علامات مشيئة الله في إنقاذه " ( ص36 ) ويقول ديدات إنه بعد ساعات من الضرب والجلْد وغرز الشوك غي الرأس، وتسخير المسيح لحمل صليبه، ثم يُصلب، فيغمى عليه، ويكون على حافة الموت بعد ساعات، ويتحمل بعد ذلك طعنة حربة في جنبه، ثم ينقذه الله ويخدع كل الناس ليظنوا أن المسيح مات، بينما كان هو على " حافة الموت ".

ونحن لا نرى منطقاً في مثل هذا الجدل – فلو أن الله أراد أن ينقذ المسيح لرفعه فوراً ( كما يعتقد معظم المسلمين ). وأي نوع من التشجيع والتقوية يمكن أن يقدمه ملاك، إن كان الله سيتدخل لينقذ المسيح بعد ساعات طويلة من العذاب والألم؟!

1- لم تكن هناك ضرورة لكل هذا العذاب، ويكون إنقاذ الله قد جاء متأخراً. 2- لم تكن هناك تعزية للمسيح لو عرف أن سيواجه عذابات الصليب، التي ستنتهي بنجاته وهو على " حافة الموت ". 3- لو أن المسيح أُنزل حياً من على الصليب، وهو على حافة الموت. والجميع يظنون أنه مات – لم رأى أحد كيف أنقذه الله، ولا كيف تدخل سبحانه لإنقاذه! ولاعتقد الكل أن هذه مصادفة ناتجة عن هلوسة!

إن حجج ديدات تناقض تسلسل الحوادث التي جاءت في الإنجيل. والحقيقة هي أن المسيح كان على حافة الانهيار الجسدي وهو يرى آلامه من أجل الخطية – وكان قد قال لتلاميذه أنه حزين جداً حتى الموت (مرقس 34:14 ). وسمع الله صلاته، وأعطاه الملاك قوة ليستمر ويتحمل الصليب والموت، وهكذا يتمم رسالته ويحرر الخطاة من أجل الخطية والموت وجهنم.

إن إنقاذ المسيح والحيلولة دون موته وهو على حافة الموت بعد ساعات من الألم المرير على الصليب، كان سيعتبر إنقاذ متأخر خالٍ من الأحاسيس، وفي غير الوقت المناسب، مصحوباً بفترة طويلة مؤلمة لاستعادة الحيوية من محنة مرعبة. أما إنقاذه بإقامته من الأموات في مجد وفي أتم صحة فهو أمر معقول ومنطقي، كما أنه في الواقع السرد الإنجيلي الحقيقي لواقعة الصلب.

ونصل الآن إلى مجادلة ديدات بأن المسيح قد أخفى شكله بعد أن استمر حياً ولم يمت على الصليب، حتى ل يتعرف عليه أحد! وأطلق ديدات على ذلك " التنكر المتقن " ( 49 ). يزعم ديدات أن المسيح لما قابل التلميذين في الطريق إلى عمواس في يوم خروجه من القبر حياً ( لوقا 15:24 )، أخفى شخصيته، إلى أن كشف عنها عندما كسر الخبز أمامها، ثم غادرهما. وهو يحاول أن يقلل من أهمية هذا الحدث في الإنجيل، والذي له مغزى أبعد عمقاً وإثارة. ومن المفيد هنا أن ننقل ما حدث تماماً " فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: «أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟» " ( لوقا 30:24-32 ).

المشهد الدرامي هنا يتكشف سريعاً. فجأة أعينهما تتفتح فيختفي عنهما!! إذا أمعنا التأمل في هذه الفقرة نستطيع أن ترى ما حدث فعلاً عندما عرفا يسوع.

يسجل الإنجيل أنه بعد قيامة المسيح، حمل جسمه الطبيعة التي سيحملها في السماء كل الأبرار. كان باستطاعته تجاوز كل القيود الأرضية، كما كان يستطيع الظهور والاختفاء كلما أراد ذلك. كان يستطيع أن يظهر فجأة في غرفة مغلقة ( يوحنا 19:20 )، وكان يستطيع أن يختفي أو يكشف عن نفسه كلما أراد.

وهكذا هنا، لم تكن المشكلة في أن المسيح تنّكر، فالنص يقول بوضوح " فانفتحت أعينهما ". فجأة كان باستطاعتهما أن يدركا من هو. وبالمِثل نقرأ أن المسيح المقام من الأموات – في جسده الممجد –لم يكن فقط يستطيع أن يفتح أعين الناس ليدركوا شخصيته، بل أنه يستطيع أيضاً أن ينير أذهانهم ليدركوا معنى كلمة الله المعانة ( لوقا 45:24 ) وكما ظهر فجأة في الحجرة ( لوقا 36:24 ). هكذا اختفى فجأة عن أنظارهما. إن الطابع الدرامي لرواية لوقا ( إصحاح 24 ) لا يمكن شرحه بعبارات عقلانية، فالإصحاح يتكلم عن قيامة المسيح من الأموات ( لوقا 46:24 ). وهذا حدث غير مألوف، لم يكن تلميذا عمواس مهيئين له فكرياً، ولكن نعمة الله فتحت عيونهما فأدركا أنهما كانا في حضرة المخلص المصلوب المقام!

إن لب وكل الموضوع الذي تدور حوله روايات الأناجيل هو صلب المسيح وموته وقيامته من الأموات. ولكن ديدات يزعم أن المسيح وُضع في " حجرة ضخمة فسيحة ( كمدفن ) " ( صفحة 79 ) بينما الأناجيل تشرح بوضوح أن ذلك لم يكن غير قبر نحته يوسف الذي من الرامة في صخرة ليكون المكان الذي يُدفن هو فيه. في متى 60:27 نقرأ أن يوسف أخذ جسد المسيح. ووضعه في قبره، ( كذلك مرقس 46:15، ولوقا 53:23 ) وفي يوحنا 41:19-42 يذكر مرتين أن المسيح وُضع في قبر وتم تكفينه حسب تقاليد الدفن عند اليهود. ومحاولة ديدات أن يروي هذه الروايات عن مدفن وقبر ليقدم تخميناته أن المسيح وُضع في حجرة ضخمة فسيحة ( كمدفن )" حتى " يستعيد حيويته " هي دليل على خلو مجادلاته من أي حقيقة يُعّول عليها.

وأخيراً نبحث في أربعة تصريحات في الصفحة 50 من كتيب ديدات يشير فيها إلى أن أناساً عديدين شهدوا في يوم قيامة المسيح أنه كان " حيا " . وهذه الكلمة كُتبت بحروف كبيرة ووضع تحتها خطاً وبعهدها علامة تعجب في كل مرة. ويُفهم من كل ذلك أن ديدات يجادل ليسند نظريته أن المسيح لم يمت على الصليب بل كان ما يزال حياً. ونحن نتعجب من مثل هذا التفكير، لأن كل موضوع القيامة من الأموات ( كما ورد في الأناجيل ) أن المسيح قام " حياً" من الأموات. ما هو إذن الذي يحاول ديدات أن يثبته؟ أن الشهادات أن المسيح كان " حياً هي من الأهمية بمكان لكل الإيمان المسيحي، فقد قام المسيح من الأموات بعد أن قتل على الصليب!!

ويقتبس ديدات من الأناجيل حسب البشير لوقا 4:24،5 ( فقط ) كلمات الملائكة لمريم والنسوة الأخريات " لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟" هو – بما لهذا من مدلول – يحذف الكلمات التالية " اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ وَيُصْلَبَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ " ( لوقا 6:24-7)

في هذه الكلمات نرى بوضوح أن الملائكة يتكلمون عن صلب المسيح وقيامته من الأموات في اليوم الثالث. وواضح أنهم أعلنوا أنه حي لأنه قام حقاً من الموت. وبنفس المقدار قال الاخوة في أورشليم لتلميذي عمواس " إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ " ( لوقا 34:24 ).

تتحد شهادات الجميع في أن المسيح كان " حياً " لأنه حقاً " قام من الموت ". " قَدْ قَامَ " ( مرقس 6:16 ) كانت هذه هي الشهادة الشاملة في ذلك اليوم. لقد قام حياً من الموت وهزم كل قوة الموت. وبفضل قيامته أصبح ممكناً للناس أن يقوموا معه إلى جدّة الحياة ( رومية 4:6 ) وأن يقوموا معه إلى حياة أبدية غالبين الموت والخطية ( 1 كو 55:15-57 ). وبهذا تمم ما أعلنه " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ" ( يوحنا 25:11 ).

أن جدل ديدات بأجمعه هو صورة كاريكاتورية مثيرة للرثاء للحدث المجيد الوارد شرحه في الأناجيل. وإن معالجتنا المختصرة لنظرية ديدات أن المسيح نزل حياً من على الصليب ثم استعاد حيويته بطريقة ما، تثبت بطريقة قاطعة فساد و خطأ كل ما ذهب إليه ديدات. والمناقشات المضللة التي يقدمها تقودنا للاستنتاج أنه فشل في إثبات نظريته.


-5-
تصريحات طائشة في كتيب ديدات

من الأشياء التي أثّرت في نفسي مرة بعد أخرى وأن أطالع كتيبات ديدات، اتجاهه المتهور للإدلاء ببيانات طائشة خالية من الذوق الكريم والحجة. ويبدو أنه يستغل جهل قرائه وسامعيه بالإنجيل، ويأمل أن يتقبلوا كل ما يقوله بدون تساؤل! وبالتأكيد لا يتصور أنه يحاول إقناع المسيحيين الذي يعرفون إنجيلهم تماماً والذين لا يسعهم الاّ التعجب من افتراضاته. ولنبدأ بما يقوله في كتيبه " من الدعوة إلى امتشاق السلاح بتلك الحجرة العلوية، إلى الحنكة في توزيع القوات عند البستان، والصلاة الدامية لله الرحيم طلباً للنجاة، ويبدو أن المسيح لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك الاتفاق السماوي الذي كان يقضي بصلبه " ( ص 16 ).

والقول الأخير إن المسيح لم يعلم شيئاً عن صلبه هو قول خاطئ، فيه تحدٍ صارخ لحقائق تناقض هذا الإدعاء. فمرة بعد الأخرى قال المسيح لتلاميذه أنه سيُصلب ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث، في تصريحات كهذه " إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ " ( لوقا 22:9 ).

وقوله " هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ " ( متى 18:20-19 ). وعندما قام من الأموات وبّخ تلاميذه لأنهم لم يؤمنوا بكل ما قاله لهم، فضلاً عن نبوات الأنبياء السابقين أنه سيُقتل ويقوم في اليوم الثالث ( لوقا 25:24-26 ). وفي مناسبات عديدة أخرى قال بوضوح إن هذا كان كل الهدف من مجيئه إلى الأرض، لأنه جاء ليضع نفسه فدية عن كثيرين ( متى 26:26-28 ) ويبذل حياته من أجل أن أن يحيا العالم ( يوحنا 51:6 ). وقال أن له سلطان أن يضع حياته وأن يأخذها ( يوحنا 18:10 ). فما أجهل أن يُقال إن المسيح لم يكن يعرف شيئاً عن صلبه الوشيك! على العكس من ذلك، عندما واجه لحظة الذروة في حياته، وعندما كان عليه كمخلّص للعالم أن يحرر الجنس البشري وأن يمهد الطريق للكثيرين ليدخلوا الحياة الأبدية، قال " وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ " ( يوحنا 27:12 ) وهكذا كان يسوع عالماً بالمصير الذي كان ينتظره حتى أنه كان دائماً يشير إليه قائلاً: " ساعتي " ( يوحنا 4:2 ) و " وقتي " ( يوحنا 6:7 ). ليس رجل غيره قيل عنه بأكثر صدق " تأتي الساعة فيأتي الرجل ". لقد جاءت ساعة خلاص العالم، وأرسل الله الرجل الوحيد الذي كان باستطاعته تحقيق ذلك: المسيح ابن مريم!

ويصرّح ديدات تصريحاً طائشاً، عندما يقول إن لقب " ابن الله " في الإنجيل هو تعبير كان جائزاً في الديانة اليهودية ( ص25 ). ولكن الأمر على عكس ما يدعيه تماماً، فكما يتمسك المسلمون بعقيدة التوحيد التي لا تسمح بأي إمكانية لأن يكون لله ولد، هكذا يهود تلك الأيام، وإلى هذا اليوم، يرفضون الفكرة كلياً. وعندما سأل رئيس الكهنة المسيح عما إذا كان هو ابن الله – كما ذُكر عنه أنه كان يقول بذلك – أجابه " أنا هو " ( مرقس 62:14 ). فلو أن هذا كان " تعبير لا ضرر منه " كما يدّعي ديدات، فإن رئيس الكهنة ما كان يصرخ في الحال :" قد جدّف!" ( متى 65:26 ). وعندما مثل المسيح أمام بيلاطس صرخ اليهود :" لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ " ( يوحنا 7:19)

ويرفض المسلمون بنّوة المسيح لله، ويزعمون أن المسيحيين حوّلوا النبي يسوع إلى ابن الله. وما كان اليهود ليدسُّوا بنّوة المسيح لله على المسيحيين، لأن المسيح نفسه قد أدلى بهذا الاعتراف أمامهم، فصرخوا:" لقد جعل نفسه ابن الله " ولهذا السبب حكموا على المسيح بالتجديف. لكن الله من خلال قيامة المسيح أعطى تأكيداً لجميع الناس أن المسيح حقاً ابنه الحبيب، كما قال هو نفسه ( رومية 4:1 ).

ويصرّح ديدات تصريحاً شاذاً مماثلاً حين يقول :" أي عالم مسيحي سوف يؤكد أن الأناجيل كُتبت بعد عدة قرون من وقت المسيح ". مع أن هناك اقتناع عاماً بين جميع العلماء الإنجيليين أن الأناجيل متى و مرقس ولوقا كُتبت بين سنة 55 و60 ميلادية ( بعد أقل من ثلاثين سنة من قيامة المسيح ) وإنجيل يوحنا حتى سنة 70 ميلادية. " العلماء " المتحاملون فقط هم الذين يفترضون غير ذلك، وحتى النقاد المعادون قد أقرّوا بهذه التواريخ، فكيف يقول ديدات إن الأناجيل كُتبت بعد عدة قرون من وقت المسيح، ويبن أيدينا أجزاء من المخطوطات يرجع تاريخها إلى سنة 120 ميلادية، كما توجد استشهادات من الأناجيل في كتابات المسيحيين الأوائل في الأجيال التي تَلت جيل الرسل مباشرة؟

ويدلي ديدات بأكثر تصريحاته بعداً عن التوفيق حين يقول في موضع آخر :" الخلاص من الآثام رخيص في المسيحية " ( ص61 ). ونحن نشك أن يعتبر المسلمون استعداد إبراهيم أن يهب ابنه لله " تضحية رخيصة ". وبالتأكيد إذن لا يوجد ما هو " رخيص " في استعداد الله لأن يهب ابنه ضحية لأجل خطايانا. يعلن الكتاب المقدس للمسيحيين بكل وضوح " لقد اشُتريتم بثمن " ( 1 كو 20: 6 ) – وأي ثمن !!. ولا يستطيع الرسول إلا أن يتكلم – نتيجة لذلك – عن " عطية الله التي لا يُعبر عنها " ( 2كو 15:9 ).فلا يمكن تقدير الثمن الذي دُفع لتخليص الإنسان من الخطية والموت وجهنم! إن الخلاص في المسيحية هو أعظم ما شاهده عالمنا قيمةً على مر العصور – حياة ابن الله السرمدي. وبنفس المقدار لا يستطيع إنسان الحصول على هذا الخلاص إلاّ إذا سلّم، بكامل إرادته، حياته كلها لله بالإيمان بابنه.

وأخيراً واحدة من اتهاماته غير الصحيحة ( كما هو نهجه ) يدّعي ديدات أن قصة ظهور المسيح المقام لتوما، التلميذ الذي شك، والمدوّنة في يوحنا 24:20-29 هي " اختلاف أثيم في الإنجيل " ( ص31 ) بل ويتهور أكثر فيزعم أن شُرّاح الإنجيل يتجهون " إلى نتيجة هي أن شك توما وما يتعلق بشأنه إنما مثله مثل ما يتعلق بتلك المرأة التي أمسكوا بها متلبسة، كما ورد في إنجيل يوحنا 1:8-11، باعتبار أن كليهما تلفيق وخداع " ( ص 76 ).

وطبعاً وبكل ما لذلك من دلالة – لا يذكر لنا ديدات من هم هؤلاء الذين يدعوهم " شُرّاح الإنجيل ". وليس هناك أي دليل في أي مكان يسند الزعم أن شك لوقا في قيامة المسيح من الأموات إلى أن رآه، ثم إعلانه بعد رؤيته للمسيح المقام أنه " ربه وإلهه " هو " تلفيق واختراع "! هذه القصة نجدها باقية في جميع المخطوطات الأولى التي بين أيدينا بدون أي اختلاف في قراءتها، ولهذا فإن الدلائل متوافرة وبالإجماع على صحتها وأصالتها. وليس هناك أي سند لتخمين ديدات أن القصة ملفقة مُخترعة!

يبدو أن ديدات قد بنى زعمه مفترضاً أن المسيح لم يُسمّر على الصليب، إنما ربط فقط بالحبال. ويصدر ديدات مرة أخرى أحد مزاعمه الطائشة لما يقول " على العكس من العقيدة السائدة، لك يسمّر يسوع إلى الصليب بل رُبط إليه " ( ص31 ). مع أن الاكتشافات الأثرية في أرض فلسطين أثبتت أن الرومان كانوا يصلبون ضحاياهم بدق المسامير فيهم على الصليب. وقد تم اكتشاف هيكل إنسان ومسمار يخترق القدمين، وذلك من سنين قريبة. بالإضافة إلى هذا فإن شهادات النبوات الشاملة، وما دوّنه التاريخ عن صلب المسيح تُجمع على أنه سُمِّر على الصليب ( مز16:22، يو 25:20، كو 14:2 ). إن مجادلات ديدات ليست فقط " على عكس العقيدة السائدة " كما يقر هو، بل أيضاً ( ومثل الكثير من مواضيعه ) تخالف الكتاب المقدس، والوقائع التاريخية المسجّلة التي يعتد بها، والاكتشافات الأثرية والأدلة – وكما هي دائماً – تخالف حتى الذوق السليم. لا يستطيع ديدات أن يقدم ولا حتى ذرة من دليل لدعم زعمه أن المسيح عُلق على الصليب بحبال. فكيف يلجأ إلى هجوم بغير دليل، كله مجرد افتراض على التسجيل التاريخي السليم بأن المسيح سُمر على الصليب، دون أن يقدم أي دليل من أي نوع على أن ما سجله تاريخ! فمن يكون الملفق المخترع؟! لو أن هجوم ديدات على ما سجله الكتاب المقدس عن صلب وموت وقيامة المسيح له قيمة وجدارة، لما كان ديدات مضطراً أن يلجأ لمثل هذه المزاعم المضحكة كالتي تناولناها بالبحث! ويشير هذا إلى قدر ما يعانيه من يأس وهو يجاهد ضد أمور متنوعة ليثبت مجرد نظريات لا يمكن إقامة الدليل عليها والدفاع عنها!


-6-
حقائق إنجيلية يطمسها ديدات متعمداً

بعد ما تقدم شرحه، لن يندهش قراؤنا أن يجدوا ديدات يطمس ويخفي متعمداً كلمات من الكتاب المقدس لا تتفق وهدفه. في اليوم التالي لصلب المسيح جاء رؤساء الكهنة إلى بيلاطس ( متى 62:27-64 ) يلتمسون أن يُختم القبر. ويقدم ديدات اقتباسه من الإنجيل هكذا: يقول القديس متى :" وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ ... فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلَّا ... فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى " ( متى 62:27-64 ). ( ص 42 ).

في موضعين من اقتباس ديدات من الإنجيل نجد ثلاث نقاط ( ... ) تبدو كأنها غير ضارة، كما لو أن شيئاً قد حُذف لعدم أهميته أو لعد اتصاله بالموضوع. يزعم ديدات أن اليهود أدركوا فجأة أن المسيح ربما يكون لا يزال حياً، وأنهم ربما يكونون قد " خُدعوا " ( ص 42 ). فذهبوا إلى بيلاطس ليجعلوه يختم القبر حتى لا يستطيع المسيح أن يهرب ويستعيد حيويته. ورغم ذلك – يقول ديدات – إنهم تأخروا يوماً واحداً، " وكان الخطأ الأخير لهم أنهم مكّنوا أتباع المسيح غير المعروفين أن يقدموا المساعدة لرجلهم الجريح بعدم غلق المقبرة غلقاً محكماً " ( ص43 ).

كل ما حدث هنا أن ديدات حذف عبارتين من الآيات التي يستشهد بها ليس لأنهما بلا أهمية، بل لأنهما يدحضان مزاعمه كلية، ويضطران القارئ لاكتشاف صورة مخالفة تماماً لما يحاول أن يوحي للقارئ به ويُظهره. وسوف نذكر الآيات بكاملها، ونورد هنا النصّ الكامل لاقتباس ديدات من إنجيل متى ونوضح بخط سميك ما حذفه من كلمات ووضع مكانها النقط ( ... ). " يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلَّا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى" ( متى 62:27-64 ).

ويتضح لنا فوراً أن اليهود لم يؤمنوا لحظة واحدة أن المسيح نزل عن الصليب حياً. لقد ذهبوا إلى بيلاطس يتكلمون عن شئ كان المسيح قد قاله لما كان بعد حياً. وهذا يعني أنهم اعتبروه قد مات، فطلبوا من بيلاطس أن يُضبط ( يُختم ) القبر، ليس لخوفهم من أن رجلاً جريحاً قد يسترد وعيه، لكن لأنهم خافوا أن يسرق تلاميذه جسده، ثم يعلنون أنه قام من الأموات. هذا هو المعنى الواضح والبسيط لهذه الفقرة.

من الواضح لماذا حذف ديدات العبارات التي ظهرت بخط سميك! لأنها تهدم نظريته. من المؤسف أن ديدات يستخدم وبصفة منتظمة هذا التكتيك المراوغ في كتيباته ضد المسيحية. إنه يشوه الكتاب المقدس بأن يحرف بعض النصوص فيخرج بها عن محتواها، ويتجاهل من وقت لآخر نصوصاً أخرى تشكك في نظرياته. وهذه واحدة من المرات التي قام فيها بهذا العمل في فقرة واحدة، ملتوياً ببعض كلماتها، محاولاً أن يثبت أن اليهود ظنوا أن المسيح حياً. وأسقط الكلمات التي توضح أن ذلك لم يكن في فكرهم على الإطلاق. وأي مسلم مخلص يمكن أن يرى أن كتيب ديدات عن الصليب بأكمله هو لوي للحقيقة وإسقاط للعبارات الواضحة في الأناجيل والتي تشهد بغير غموض لحقيقة صلب المسيح وموته وقيامته. ونحن ننصح القراء أن يتعاملوا مع مثل هذه الاقتباسات التي حُذفت منها بعض كلمات ووُضع مكانها ثلاث نقاط ( ... ) بحذر شديد، لأن ديدات يجعلها تقول ما لم يرد فيها – وهذه خيانة للحق! لقد تذكر اليهود أن المسيح طالما كّرر نبوة بأنه سيقوم من الأموات بعد ثلاثة أيام، وأرادوا أن يمنعوا أي إمكانية لتحقيق هذه النبوة، سواء واقعياً من خلال قيامته أو بحيلة من خلال عمل يقوم به تلاميذه. وليس هناك سند لزعم ديدات أن اليهود " شكّوا في موته " وأنهم " ظنوا أنه لم يمت على الصليب " ( ص79 ). والكلمات التي حذفها من الفقرة التي استشهد بها في ( ص 42 ) من كتيبه توضح بجلاء أنهم كانوا مقتنعين أن المسيح مات حقاً، لكنهم لم يريدوا أن يدَّعي تلاميذه أنه قام من الأموات وعاد للحياة مرة أخرى!

والمسيحيون لا يعترضون على أي تحليل ناقد مخلص لكتابهم المقدس ومعتقداتهم. وفي الحقيقة نحن نرحب بذلك، لأنه يحفزنا للتأكد مما نؤمن به، كما أنه ليس هناك مسيحي صادق يود أن يؤمن بأشياء لا تصمد أمام التحليل الناقد. على أننا نستاء من أي مطبوعات مثل كتيب ديدات " صَلْب المسيح بين الحقيقة والافتراء " والذي يجرح مشاعرنا ويؤذيها. ونحن واثقون أن غالبية المسلمين سوف يكون لديهم نفس هذا الشعور بشأن أي مطبوعات مسيحية تشوّه الإسلام بالطريقة التي يُحقّر بها ديدات المسيحية.

ونحن نرتاح إذ نجد كثيرين من المسلمين في جنوب أفريقيا يعبّرون عن عدم موافقتهم على مثل هذه المطبوعات. لقد قالت إحدى المجلات الإسلامية المحلية منذ وقت قريب عن أسلوب ديدات :" إنها لحقيقية معروفة تماماً في كافة أنحاء جنوب أفريقيا، وحتى بين الأوساط التبشيرية المسيحية، أن المجتمع الإسلامي في جنوب أفريقيا لا يتفق مع السيد أحمد ديدات في أسلوبه في نشر الدعوة الإسلامية وخاصة بين المسيحيين. وقد أدانت السيد ديدات هيئات دينية إسلامية مسئولة كما دانه الأفراد بسبب الطرية التي بها ينشر الإسلام والتي من نتيجتها توليد العداوة ضد المسلمين " ( مجلة المسلم ديجست، التي تصدر في جنوب أفريقيا. عدد يوليو- أغسطس- سبتمبر 1984 ).

سوف نختم بتعرُّض مختصر لزعم ديدات أنه لو أمكن إثبات أن المسيح لم يمت على الصليب فإن مدلول ذلك أنه لم يُصلب بالمرة! وهذا الجدل الواهي ناشئ من مأزق وضع ديدات نفسه فيه بنظريته أن المسيح استمر حياً على الصليب. فالمسلمون يعتقدون أن المسيح " لم يُصلب ولم يُقتل " حسب تفسيرهم لسورة النساء 157. والغالبية العظمى من المسلمين في كافة أنحاء العالم يؤمنون أن المسيح لم يُوضع إطلاقاً على الصليب. لقد عقدْتُ ندوة مع ديدات في بينوني في سنة 1975 عن موضوع " هل صُلب المسيح؟ " ولخَّصت الصحيفة المحلية حينئذ زعم ديدات بالقول : " لقد صُلب لكنه لم يمت، هكذا كانت وجهة نظره ". وهناك عدد من المسلمين الفاهمين تبيّنوا أن مجمل نظريته يقلل من شأن ما يقوله الكتاب المقدس وما يقوله القرآن أيضاً عن الصلب، فهو الآن يحاول أن يخلص نفسه من المأزق الذي وضع نفسه فيه! فيجادل بأن كلمة " يُصلب " معناها " يُقتل على صليب " ويقول إنه إذا استمر شخص حياً على الصليب فإن ذلك يعني أنه لم يُصلب. وهو يشير بأنه في الإنجليزية " يُصعق " تعني القتل بصعقة كهربائية، وأن " يُشنق " تعني القتل بالشنق. وعلى هذا يقول إنه في الإنجليزية " يُصلب " يجب أن تعني " يُقتل على الصليب ". ويدّعي أنه لا يصح أن يُعتبر مسئولاً عن النقص الذي في اللغة الإنجليزية التي لا تحتوي على كلمات بديلة للدلالة على الشروع في الصلب أو الصعق أو الشنق. وفي قوله هذا يظهر نقص فهمه لموضوع الصليب تماماً. إن رواية واقعة الصلب في الكتاب المقدس كُتبت في الأصل باللغة اليونانية، وقد مرت أكثر من ألف سنة قبل أي ترجمة لها إلى اللغة الإنجليزية. والنقطة الهامة ليس ما قد كلمة " يُصلب " كما يفهمها باللغة الإنجليزية، ولكن المهم هو معنى الكلمة باليونانية عندما كُتبت الأناجيل لأول مرة.

وهنك آية تكفي للدلالة على أن " يُصلب " في وقت كتابة الأناجيل كانت تعني ببساطة " التثبيت على الصليب ". فلقد أعلن بطرس الرسول لجموع اليهود:" يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ .... هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. " ( أعمال 23:2 ).

ونقرأ النص بوضوح " أنتم صلبتموه وقتلتموه " وهذا يعني بشكل واضح " أنتم ثبتموه على الصليب وقتلتموه هناك ". فمن السخف أن نفترض أنه إذا لم يمت رجل فعلاً على الصليب، فإن هذا يعني أنه لم يٌصلب إطلاقاً. وإذا كانت كلمة " يُصلب " تعني فقط " يُقتل فإن بطرس كان سيقول فقط " صلبتموه ". ولكنه يضيف :" وقتلتموه ". فهو يظهر بوضوح أن كلمة " يُصلب " تعني التثبيت على صليب. وهكذا يستمر ديدات في المأزق الذي وضع نفسه فيه بأن يسوع صُلب فعلاً لكنه لم يمت، وهي نظرية يمقتها المسيحيون والمسلمون الحقيقيون على حد السواء.

إن المرء ليعاني وهو يحاول أن يتتبع المنطق الفكري وراء خط ديدات في تناول الموضوعات! يبدو أنه يظن أنه لو استطاع أن يبرهن أن المسيح لم يمت على الصليب فإن هذا سيثبت أن القرآن صادق حينما يقول أنه لم يُقتل بواسطة اليهود. لكن كيف يمكن تصوُّر أن يكون لهذه النقطة تماسك، بينما الجدل كله يسلّم بصحة باقي الأمور التي ينكرها القرآن عن واقعية صلب المسيح؟ وهكذا يبدو واضحاً أن جدله هذا خالٍ تماماً من أي منطق!


مقالات وكتب أخرى لجلكريست
الرد على الإسلام