الاستعلاء على الغير

 

استغرقت في هذه الأيام في التفكير في جملة قضايا يلفّها الغموض والإبهام والتي تطغى على الغالبية الساحقة من الناس، ومن بينها قضية الدين ومرتكزاته، وهي الأخطر والأهم.

فالغموض أو الإبهام أو ما يمكن أن يسمى بالجهل الديني كثيراً ما ينطبق على أتباع العقيدة نفسها، كما هو الحال في حياة الكثيرين من المسيحيين من شتى الطوائف والمسميات. والأمر نفسه مشابه ولا شك، لدى الأوساط غير المسيحية أيضاً. ويلاحظ أن ما يشدُّ الناس إلى دياناتهم أو طوائفهم رغم جهلهم بأمور دينهم هو في معظم الأحوال التقاليد الاجتماعية. فالكل محسوبٌ على عقيدته، والتخلي عنها في مجتمعه كتخلي الإنسان عن ثيابه.

وهناك وجه آخر من الجهل أو الإبهام الديني يتمثل في جهل أصحاب عقيدةٍ ما لعقيدة الغير. ويزداد الأمر استغراباً عندما يكون أتباع العقيدتين يعيشون على أرض واحدة وضمن كيانٍ واحدٍ، يضمّهم سياجُ وطنٍ واحد، ويجهلون حقيقة عقائد بعضهم البعض.

فالمثال واضح .. فاليهودية والمسيحية والإسلام دياناتٌ ثلاث نبتت على هذه الأرض الشرقية، وأهل الديانات الثلاث يتعايشون معاً بطريقةٍ أو بأخرى، ومع ذلك فقليلون منهم من يعرف عقيدة الطرف الآخر حق المعرفة. ولذلك تُعشش في أذهان الكثيرين قصصٌ ورواياتٌ عن الديانة الأخرى ليس لها أساس من الصحّة. وفي أجواء الجهل السائد وغياب المعرفة يجد المغرضون فرصتهم لبث الظنون عن ديانات الغير بطريقةٍ ساخرة مشوهة للحقائق.

فالمعلومات التي يستقيها هؤلاء أو أولئك عن الديانة الأخرى معلومات غالباً ما تكون غير واقعية وأحياناً معلوماتٍ مسيَّسة مغرضة مطبوخة في مطابخ الآخرين كي تؤدي طعماً منفراً.

أما الأمر الطبيعي والمنطقي أن من أراد أن يعرف ما هي الديانة اليهودية فليقرأ التوراة وهي متوافرة، ومن أراد أن يتعرف على المسيحية فليقرأ الإنجيل أو بالحري فليقرأ التوراة والإنجيل في كتاب واحد هو الكتاب المقدس، ومن أراد أن يتعرف على الإسلام فليقرأ القرآن.

ومن الملاحظ في بلداننا الشرقية أننا نتأثر بالأقاويل والدعايات التي تصل إلى مسامعنا ونقبلها على علتها دون فحص أو تحقّق، فالأولى بمن يرغب المعرفة أن

يتعرّف بنفسه على الأديان مباشرة من مصادرها هي، وهناك سيجد حتماً أن المعلومات التي حملها عن ديانة الغير غير صحيحة، وأنها كانت مغرضة - منفّرة - غايتها تسويد صحيفة الوجه الآخر، لضمان عدم التقرب منه أو التعرف عليه. وهذا بحدِّ ذاته نوعٌ من الإرهاب الفكري والتعتيم على الجماهير كي تبقى السيادة للجهل والإبهام. وليبقى الكذب والتمويه هما السائدان بين الناس.

أعزائي، لدي مكتبة بيتية أعتز بها تحوي مئات من الكتب المتنوعة المواضيع، فيها من الكتب المسيحية والإسلامية واليهودية والدرزية والبوذية والكنفوشية، وحتى الماسونية والوجودية والبهائية وغيرها من المعتقدات. والمكتبة مفتوحة أمام أبنائي وأصدقائي يمكن لأي أن يقرأ منها ما يشاء. وللكل حريةُ القراءة والإطلاع على ما يريد، فلا أخاف على أبنائي أن يطلعوا على معتقدات الغير. بل دعني أهمسها في أذنك عزيزي القارئ ولكن بيني وبينك - أن من يقفُ على الصخر لا تخيفه الأمواج العاتية. أما لو كانت العقيدة التي نبت في ظلالها أبنائي عقيدة هشة، مُبهمة، ضعيفة، غير مرتكزة على أساسات متينة، وليس لها الشهادة التي تتمتع بها من صدقٍ وأمانةٍ وقدسيةٍ وهيبة... عندها سيكون من الطبيعي أن أخشى على أبنائي من أن تهتزَّ عقيدتهم في قلوبهم بتأثير أي كتابٍ آخر يطلعون عليه..

لدي ملاحظة أخرى.. فأنت صديقي القارئ منذ أن ولدت في هذه الحياة وتفتّحت على الدنيا ابتدأت تتعرف على الأشياء من حولك وتتلقى المعلومات والدروس شيئاً فشيئاً، أولاً من والديك أو ممّن معك في البيت، ثم من محيطك، ومن مجتمعك الذي تعيش فيه، ومن مدرستك التي تتلقى فيها العلم، من معلِّمك ومن رفاقك الذين تخالط، وربما من رجل الدين أو من مدرس الدين الذي تجلس في صفه .. ومن حينها أخذت المعلومات تختزن في ذاكرتك وتنطبع على شاشة حياتك وتكوّن شخصيتك. فالمعلومات التي وصلتك أصبحت جزءاً لا يتجزأ من قناعاتك، وهي تؤكد لك بأنك تملك مجموعة من الحقائق في الدين والعقيدة وقواعد السلوك وأسلوب التعامل مع الناس وغير ذلك. ومن حينها أنت مطمئنٌ بأنك بنيت نفسك على عقيدةٍ دينيةٍ صحيحة، وأن من يختلف عنك هو على باطل. ومن هنا فالذين ينطبق عليهم هذا الحال يبدأون ينظرون إلى من اختلف عنهم في مبدأٍ أو عقيدة، نظرة ساخرة.

ويصل البعض أن يستهينوا بعقيدة الآخرين ويتلفظوا بكلمات نابية ضدهم، جارحة للمشاعر لأنهم يرون أنهم هم على حق، وأن الغير على باطل .. هكذا يبدأ الاستعلاء على الغير دون أن يعرفوا حقيقة عقيدة الغير أو يطلعوا على كتب الغير، لأن هؤلاء تشرّبوا الكره والنفور ضد عقائد الغير وأشخاصهم منذ طفولتهم.

أذكر أني كنت يوماً أجلس على مقعدٍ في قاعة انتظار المسافرين لمطار إحدى الدول الأجنبية، فتناولت كتابي المقدس الذي يرافقني دائماً أينما توجّهت وأخذت أقرأ وأتأمل في صمت. بعد قليل اقترب مني مسافر لا أعرفه وجلس على المقعد المجاور، تبيّن لي فيما بعد أنه رجل متديّن متحمّس لدينه. ولما اكتفيت من القراءة طويت الكتاب ووضعته على منضدة صغيرة أمامي، فأستأذنني جاري أن يقرأ بالكتاب لبعض الوقت فأجبته بكل ترحاب، ولما فتح الكتاب المقدس كان أمامه الأصحاح الخامس من إنجيل متى وابتدأ يقرأ إلى نهاية الأصحاح الخامس عشر، عندها حضر "الجرسون" فطلبت فنجانين من القهوة فطوى صديقي الكتاب ورده لي شاكرا، وتبادلنا جمل المجاملة والترحيب وتبادلنا الحديث عن اتجاهات السفر وما إلى ذلك، وأثناء شرب القهوة سألني صديقي عن مهنتي فأجبته، فقال: "الكلام الذي قرأته في الإنجيل أعجبني جداً وهذه هي أول مرة أطلع على مثل هذا الكلام." فشكرته وأجبته على بعض الأسئلة والتفسيرات لبعض المصطلحات التي قرأها في الإنجيل ثم قال: "الحقيقة يا أستاذ شعرت من ملامح وجهك ومن حديثك أنك إنسانٌ خلوق، وأنا بصراحة أستغرب أنك لست على عقيدتي فلما لا تدخل ديني؟" فابتسمت له وقلت: "هل اطلعت على كتابي وعلى عقيدتي التي أتبع؟" قال: "ما أعرفه قليل." قلت: "فحريٌّ بك أن تفعل ولعلك تبدأ من اليوم، وبعدها من يدري ربما أنت تقرر أن تؤمن بما أؤمن به.." فابتسم وقال: "ولكن عقيدتي تدعوني للصلاح فكيف أغيّرها؟" فقلت: "أنت البادئ بالحديث، لذلك نصحتك أن تقرأ الإنجيل وترى مدى الصلاح والخير الذي لا حدود له فيه، وتقارن عندها كما تشاء وتعود لي بطلبك من جديد لو شئت لنتحاور، ولكن دعني أسهل عليك المهمة الآن فأسألك:

لو كنت تقود سيارتك الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وصادفت على تقاطع طرق أمامك أن الضوء أحمر (ففي غياب شرطي المرور) هل تقطع الشارع وتخالف إشارة المرور؟" فقال: "لما لا!" فقلت: "أنا لا أقطع!" قال: "لماذا؟" قلت: "لأن الإنجيل أوصاني أن أحترم أنظمة البلاد وألتزم بها بأمانة."

وقلت: "لو أزعجك إنسان ما فهل يمكن أن تَشْتُمَه؟" قال: "نعم." قلت: "أنا لا أشتم أحداً حتى أعدائي." قال: "لماذا؟" قلت: "لأن إنجيلي أوصاني أن أبارك ولا أشتم!"

ثم قلت: "لو رأيت قريباً لك يضرب إنساناً حتى كسر يده، ودُعيت للشهادة بماذا ستشهد؟" قال: "طبيعي أحاول أن أقول شيئاً لا يوقع قريبي بالجرم." قلت: "كيف؟" قال: "أشهد مثلاً أني رأيت عن بعد اثنين يتشاجران ولا أعلم من هما." قلت: "وهل هذا كذب؟" قال: "بلى، ولكن الكذب في سبيل مصلحة قريبي مسموح!" قلت: "الكل يا صديقي له مصلحة، وإذا الكل كذب ماذا يتبقى من الصدق في المجتمع؟" قال: "وأنت لو كنت في نفس الموقف بماذا تشهد؟" قلت: "أشهد بالحق ولا أرتاب لأن إنجيلي حذّرني من الكذب." ثم قلت: "لو كنت أنت شرطي المرور واصطدمت سيارة مواطن أمامك بشخصٍ أجنبي على رصيف الشارع وتكسر، فماذا ستكتب في التقرير الذي تقدمه للمحكمة عن الحادث؟"

قال: "بالتأكيد سأعمل على نجاة المواطن ابن بلدي." قلت: "هل عدلت؟" فسكت. قلت: "إذاً يا صديقي إلى ماذا دعوتني لأترك ديني وقد علمني العدل والتسامح والصدق والأمانة والحب، واحترام الأنظمة والقوانين؟"

وهنا أعلنت مكبرات الصوت للمسافرين في رحلة صديقي للبدء بإجراءات السفر، فأستأذن والحيرة في عينيه. وقبل أن يصل الحاجز عاد إليّ وطلب عنواني فأعطيته وودّعته بحرارة. فهز يدي  وقال: حقيقة ما عرفته منك ومن كتابك كان جديداً عليّ، وسأعمل بنصيحتك، أتمنى اللقاء بك ثانية. وغاب بين جموع المسافرين على أمل اللقاء.

 


مقالات أخرى

الرد على الأسلام